سماعاتي كلها بخطه، وأخذ لي إجازات منهم. فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم، وأوثر من أرياب النقل أفهمهم، فكانت همتي تجويد العُدد لا تكثير العدد. ولما رأيت من أصحابي من يؤثر الإطلاع على كبار مشايخي ذكرت عن كل واحد منهم حديثًا" (?).

وكانت بغداد إلى ذلك الوقت لا تزال عاصمة العلم يجتمع فيها الجهابذة في كل فن، فكان ذلك نعمة على ابن الجوزي وفضلًا من الله، إذ إنه لم يحتج إلى أن يرحل في طلب العلم، فالشيوخ بين يديه تزخر بهم بغداد في كل فن، فجعل يختار منهم الأعلم والأفهم، ومع هذا الإنتقاء فقد حصلت له مشيخة حافلة تنوف على الثمانين شيخًا (?)، ومن أشهر هؤلاء الشيوخ:

- أبو بكر الدينوري الحنبلي، وهو شيخه في الفقه والخلاف والجدل والأصول.

- القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى الفراء. وهو شيخه في الفقه.

- أبو حكيم النهرواني. وهو شيخه في الفقه أيضًا.

- أبو الحسن بن الزاغوني. أخذ عنه الفقه والوعظ.

- سبط ابن الخياط. وهو شيخه في القرآن.

- أبو منصور الجواليقي. وهو شيخه في اللغة والأدب.

فهؤلاء الأئمة اجتمعوا على تكوين ثقافة ابن الجوزي وتعاونوا على تثقيف قلبه وعقله ولسانه، وانضاف إلى ذلك ما كان متوفرًا بين يديه من الكتب التي كانت موقوفة على المدارس آنذاك، إلى جانب حصافة في الذهن وحذاقة في الفكر وذاكرة عجيبة تحفظ ما يستودع فيها. وكان يثابر على طلب العلم بنهمة لا تنقطع.

وهكذا حتى جاءت مرحلة النضج سريعة مبكرة، فصار الفتى شيخًا مصنفًا وهو في ريعان شبابه، فقد صنف وعمره لا يتجاوز السابعة عشرة (?)، وكان شيخه وشيخ الحنابلة في وقته؛ أبو حكيم النهرواني، قد أسند إليه إعادة دروسه في المدارس التي وكان يتولاها (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015