مما اتفق لي وينتظم في سلك الملح مع تضمن فائدة أني كنت خرجت من مدينة فاس - حرسها الله تعالى - أيا مالحصار، وأتينا على جبل بني زروال، ومعي جموع من الناس من طلبة وفقراء وتجار، فوافينا به رجلاً من أهل محبتنا، فكان ينصرف لي في أموري وفي أمور من معي من الناس يحسب تفقدهم وإنزالهم منازلهم. وربما نتردد فيريد أن يكشف لي عن رأيه في ذلك فيدنو مني ويناجيني، وكان ساقط الأسنان، لا يكاد يفهم كلامه، وكان مع ذلك كلام أهل تلك البلاد منغلقاً عنا لا نكاد نفهمه، ثم يخفت بصوته لئلاّ يسمعه من حضر، فيتكلم ولا أكاد أسمع من كلامه حرفاً واحداً، حتى إذا فرغ من حديثه رفع رأسه إلي وقال: هكذا يكون الكلام مفصحاً بها، فكنت في هذا أباسط أصحابي فأقول لهم: إن هذه الجملة الأخيرة من كلامه وقع فيها حكم بطريق القصر، وهو موقوف على أشياء قبله لم يحصل واحد منها، الأول سماع اللفظ فإنه مقدمة الفهم، الثاني معرفة الوضع فإنه شرط، الثالث فهم الألفاظ مفردة، الرابع فهم التركيب، الخامس فهم النسبة تصوراً، السادس فهم الحكم مطلقاً " أي من غير قصر " السابع فهمه مقصوراً، ثم إن الأخير أعني الحصر محتاج إلى دليل لأنه بسبيل المنع، ولم يحصل شيء من ذلك كله، وما توقف على ما لم يحصل فهو غير حاصل، ثم إني مع ذلك أستبشر عند حديثه، وربما أحرك رأسي موهماً أني قد حصلته، وأني قد استصوبت رأيه، وذلك أنه لم يمكني في الوقت غير ذلك، فإني إن راجعته ليبين لم يبين إلاّ بخفية كما فعل أولاً، فلا يحصل طائل، وقد علمت أن ليس في عدم تبين مقاصده مهمٌّ يفوت، لأن كل ما ينحو إليه من الرأي ويتشوف إليه من المصلحة فعندي بحمد الله ما يكفي فيه، فكنت أساهله وأتركه بحاله رفقاً به وجبراً لخاطره وتقللاً من الشغب وعندي على هذا النحو مذهب، وأرى كثيراً من الناس يَنْبُون عنه، وللتنبيه عليه مع التلميح السابق سطرت هذه القصة، وذلك أني أتغافل عما لا حاجة إليه، ولا أتتبع ما فيه تكلف ولا تدعو الضرورة إليه وإن ذلك عندي هو أسلم وأبعد عما يخشى من ارتكاب الفضول أحياناً، وتجاوز الحدّ أحياناً، وإحراج الصدر أحياناً واستثارة الشر أحياناً وأقرب إلى مكارم الأخلاق، وأدخل في المداراة المطلوبة، وأبعد عن الملاحاة المذمومة.

وفي الحديث: " مُدَارَاةُ النّاسِ صَدَقَة " وفي حديث آخر: " رَأسُ العَقْلِ بَعْدَ الإيمَانِ بِاللهِ التَوَدُّدُ إلى النّاسِ " وفي خبر آخر: " التَوَدُّدُ إلى النّاسِ نِصْفُ العَقْلِ، وَحُسْنُ التَدْبِيرِ نِصْفُ المَعِيشَةِ، وَمَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ " وقال الشاعر:

ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهداً كل عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدَّهر صاحب

وقال الآخر:

أغمض عيني عن صديقي تغافلاً ... كأني لما يأتي من الأمر جاهل

وما بي جهل غير أن خليقتي ... تطيق احتمال الكرهِ فيما تحاول

ونحوه قول الآخر:

أغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق

وقال غيره:

إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً ... صديقك لا تلقى الذي لا تعاتبه

فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجتنبه

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمِئت وأي الناس تصفو مشاربه؟

ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟ ... كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه

وقال غيره:

إذا ما الصديق أسا مرة ... وقد كان فيما مضى مجلا

ذكرت المقدم من فعله ... فلم ينسني الآخر الأولا

وقال غيره:

وأغفر عوراء الكريمِ ادِّخاره ... وأعرض عن شتم اللئيمِ تكرّما

وقال غيره:

احرص على حفظ القلوب من الأذى ... فرجوعها بعد التنافر يعسر

إنَّ القلوب إذا تنافرت وُدّها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر "

وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أحب: صدق الحديث، ومداراة الناس، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمم للجار، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وقرى الضيف، والوفاء بالعهد، ورأسهن كلهن الحياء.

وقال الشاعر:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015