والمرء لا يجني سوى غرسه ... غادٍ إليه كسْبُهُ رائح

وهو لما يعتض في نفسه ... من مأرب يقتاده كادح

والطبع ملاك زمام الفتى ... وسيره بسره بائح

والصدق سيف صارم حدُّهُ ... كشّافُ كل معوص فاتح

وكل من أسر مكتومة ... فوجهها في وجهه لائح

إن تكُ نوراً فهو منها مُضي ... أو ظلمة فهو بها كالح

ومن يُرمْ نيل المنى بالمنى ... فهو عن الفوز بها نازح

ومن يخم عنها ولا يقتحم ... أبوابها فهو امرؤ دالح

وما على المرء سوى جده ... وجهده وربه المانح

وقد انحصرت دعاويهم في الحدثان الكوائن ومآرب الناس، ولم يرتقوا إلى ما فوق ذلك لجهلهم، فاشتغلوا بما يطلبه العوام من الأمور المذكورة، وذلك لو فتح لهم دون ما فوقه لكان أمراً تافهاً لا يلتفت إليه ذو همة، فإن أولياء الله تعالى يكشف لهم عن الذات والصفات والأسماء كشفاً لا تبلغه العقول، وعن ملكوت السماوات والأرض وعن العرش والكرسي والجنة والنار والملك والروح وغير ذلك، فمن لم يبلغ ذلك واطلع على كون المسافر يقدم غداً " وفلان يتولى " وفلان ينعزل، وفلان يتزوج ونحو ذلك وفرح به كان بمنزلة من دخل سوقاً فيها صيارفة الذهب والفضة والجوهر والياقوت الحرير وسائر البزّ والعبيد والخيل والإبل " والبر " والأرز فوقع على بائع نبق فاشترى منه النبق وذهب " به " فرحاً وقال إنه قد تسوق " كما تسوق " الناس، ولا ريب أن ما ذهب به يفرح الصبيان به ومن لا عقل له من النسوان، وكذلك الكوائن يفرح بها صبيان العقول وكل من لم يبلغ مبلغ الرجال من عوام الناس.

ومنهم من يستخدم جنيّاً فيأتيه بخبر الناس وخبر من يَرِد عليه مثلاً وما أتى به من الهدية وما وقع له في الطريق فيخبر بذلك قبل مجيئه ويخبره إذا ورد فلا يشك العوام أنه كشف ربّاني وأنه من أولياء الله، وقد يكون من أعداء الله، كما أخبرونا عن رجل ممن تصدر للمشيخة والناس مقبلون عليه فأتى رجل إلى مسجده فجلس في زاوية منه فإذا بالمرابط قد دخل فنظر يميناً وشمالاً فلما لم يرَ أحداً رفع ثوبه وجعل يبول في المسجد يميناً وشمالاً حتى نجسه فحينئذ خرجت جنّيّة فمثلت بين يديه فقال لها: أي شيء جئتني به؟ فقالت: ذهبت إلى قبيلة بني فلان فلم أزل حرضهم على الزيارة حتى اتفقوا وجمعوا من الهدية كذا " وكذا " وهم خارجون يوم كذا، فخرج المرابط إلى مجلسه فقال: تهيئوا لبني فلان فإنهم قادمون عليكم بهدية كذا، فلما قدموا قالوا: قد أخبرنا الشيخ بكم وبما جئتم به منذ يوم كذا، فهذا - والعياذ بالله - كافر، والكرامات تحسب له.

ومنهم من يستند إلى التنجيم وعلم الاقترانات وإلى خط الرمل أو نيروجات أخرى تشبهه.

ومنهم من يحتال احتيالاً فإذا قدم الوفود مثلاً دسّ إليهم من يسألهم فيقولون: قد اطلع الشيخ على أحوالنا، وقد يحتال في ساعته فينظر مثلاً إلى من بين يديه ثم يبتسم أو يحرك رأسه أو يقول: سبحان الله أو لا إله إلاّ الله ويكون ذلك الشخص قد خطر له شيء فيقول: ما فعل الشيخ هذا إلاّ على ما في قلبي، ويفهم من ذلك إمّا تعجباً وإما استحساناً، ويعده مطلعاً على ذلك وهو لم يطلع، وقد يتكلم على ما في خاطر السامع صريحاً فلا يشك السامع في أنه كشف، ويكون إنما خطر له ذلك اتفاقاً حين خطر للآخر كما يقع الحافر على الحافر، فتكلم عليه ولا اطلاع له، وقد يتكلم " بكلام " في غرض فيحمله السامع على أنه إشارة إلى ما في قلبه أو حاجته وإنه كوشف بذلك، وأكثر ما يحكى من هذا النوع في أهل الزمان إنما هو من أحد هذه المداخل احتيال من المتبوع أو جهل من التابع، والعوام يستنطقون من لا ينطق ويفسدون من لم يفسد، فهم الشياطين في زي المؤمنين، وما بالك بشيطان في زيّ محب، وإن استعذت منه عاداك، ووقع فيك الغيب بالإذابة زيادة على ما فعل في الحضور، فهو شر من الشيطان الآخر بكثير، فكن منهم على حذر كما قيل:

فخف أبناء جنسك واخش منهم ... كما تخشى الضراغم والسَبنْسَى

وخالِطهم وزَايِلْهُمْ حِذاراً ... وكن كالسامريّ إذا لَمسْتا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015