فخطب القاضي وشهد القاضي والنفر وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر، فالتقطت والله يا أمير المؤمنين ملء كمّي ونظرت وإذا يحيى في الدكّة ما بين المشايخ ويحيى وولده والغلام ونحن مائة رجل واثنا عشر رجلاً، فخرج إلينا مائة خادم واثنا عشر خادماً مع كل خادم صينية فضة عليها ألف دينار شامية، فوضع بين يدي كل رجل منا صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يصبّون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي بين يدي يحيى لا أجسر على الصينية، فغمز لي الخادم، فجسرت عليها وجعلتها في كمّي وأخذت الصينية وقمت وأنا أمر طول الصحن والتفتّ ورائي هل يتبعني أحد، فإني لكذلك أطاول الالتفات ويحيى يلحظني فقال للخادم: ائتني بالرجل، فرُددت إليه، فأمر، فسُلبتُ الدنانير والصينية، ثم أمرني بالجلوس فجلست، فقال: ممن الرجل؟ فقصصت عليه قصتي. فقال: علي بموسى، فأُتي به، فقال: يا بني هذا رجل غريب فخذه إليك اخلطه بنفسك ونعمتك. فقبض عليّ موسى وأخذني إلى بعض دوره فقصف عليّ يومي وليلتي، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: إن الوزير أمرني بالقصف على هذا الفتى وقد علمت تشاغلي في دار أمير المؤمنين فاقبض عليه وقاصفه، فلما كان من غد تسلمني أحمد، ثم لم أزل وأيدي القوم تتداولني عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني في الأموات هم أم في الأحياء، فلما كان في اليوم العاشر دُفعت في يدي الفضل فقصف عليّ، فلما كان في الحادي عشر جاءني خادم مع عشرة من الخدم فقالوا: قم عافاك الله فاخرج إلى عيالك بسلام. فقلت: وا ويلاه سلبت الدنانير والصينية وقد تمزقت ثيابي واتسخت وأخرج على هذه الحالة! إنا لله وإنا إليه راجعون! فرُفع لي الستر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، فقبل أن رُفع السابع قال لي الخادم: تمنّ ما شئت، ورفع لي ستر عن حجرة كالشمس استقبلني منها رائحة العود والندّ ونفحات المسك، وإذا أنا بصبياني يتقلبون في الحرير والديباج وأنا قد حمل إليّ ألف ألف درهم مبدّرة وعشرة آلاف دينار وقبالتين بضيعتين وتلك الصينية مع الدنانير والبنادق، فبقيت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم من بيت نار النوبهار أو رجل غريب اصطنعوني، فلما جاء القوم البلية ونزلت بهم من الرشيد النازلة قصدني عمرو بن مسعدة وألزمني من الخراج في هاتين الضيعتين ما لا يفي دخلهما به، فلما تحامل عليّ الدهر كنت أنظر إلى خرابات القوم فأندبهم. فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة، فلما أُتي به قال له: يا عمرو أتعرف الرجل؟ قال: نعم هو من بعض صنائع البرامكة. قال: كم ألزمته في ضيعته؟ قال: كذا وكذا. قال: ردّ عليه كل ما استأديته إياه في سنيه وأوغر ضيعتيه تكونان له ولعقبه من بعده، فعلا نحيب الرجل بالبكاء يرثي البرامكة، فلما طال بكاؤه قال له المأمون: فممّ بكاؤك وقد أحسنا إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا أيضاً من صنائع البرامكة، أرأيتك يا أمير المؤمنين لو لم آت خرابات القوم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين ففعل بي ما فعل من أين كنت أصل إلى ما وصلت إليه؟ قال إبراهيم بن ميمون: فلقد رأيت المأمون وقد دمعت عينه واشتد حزنه على القوم وقال: صدقت لعمري هذه أيضاً من صنائعهم، فعليهم فابك وإياهم فاشكر!

مساوئ قلة الوفاء والسعاية

يقال: إن رجلاً رفع رقعة إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله، يسعى فيها ببعض أصحابه، فوقّع فيها: تقربت إلينا بما باعدك من الرحمن ولا ثواب لمن آثر عليه.

قيل: ورفع منتصح رقعة إلى عبد الملك بن مروان، فوقّع فيها: إن كنت كاذباً عاقبناك، وإن كنت صادقاً مقتناك، وإن استقلتنا أقلناك. فاستقاله الرجل.

قيل: وكتب صاحب بريد همذان إلى المأمون بخراسان يعلمه أن كاتب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطآ على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها بينهما، فوقّع المأمون: إنا نرى قبول السعاية شراً كمن قبله وأجازه، فأنف الساعي عنك فلو كان في سعايته صادقاً لقد كان في صدقه لئيماً إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر على أخيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015