وحدثني أبو مالك عبد الله بن محمد قال: لما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور والناس عنده يعزونه فقال: يا أمير المؤمنين كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً وهو مريض فلم أقبضها. فقال المنصور للخازن: ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية، يعني عبد الله بن عليّ. فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن أخرج معهم فإني والله مشؤوم! فقال: لعله يغلب شؤمك فاخرج مع العسكر. فقال: والله ما أحب لك يا أمير المؤمنين أن تجرّب ذلك فإني لا أدري على أي الفريقين يكون.

فقال أبو جعفر: دعني من هذا ما نريد غير المسير. فقال: يا أمير المؤمنين والله لأصدقنك، إني شهدت تسعة عساكر كلها هزمت فأنا أعيذك بالله أن تكون العاشر. فاستفرغ أبو جعفر ضحكاً وأمره أن يتخلف.

قال: وقيل لجبان: انهزمت فغضب عليك الأمير. فقال: يغضب عليّ الأمير وأنا حيّ أحبّ إليّ من يرضى عني وأنا ميت.

قال: وقيل لبعض المجّان: ما لك لا تغزو؟ فقال: والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أمرّ إليه ركضاً! قال: وقال الحجاج لحميد الأرقط وقد أنشده قصيدة يصف فيها الحرب: يا حميد هل قاتلت قط؟ قال: لا أيها الأمير إلا في النوم. قال: وكيف كان وقعتك؟ قال: انتبهت وأنا منهزم.

وقال عمرو بن بحر الجاحظ: سمعت بلالاً يحكي عن أصحابه أن رئيسهم كان يسمى ابريقياء وأنهم خرجوا في سفر فإذا بعشرة نفر من اللصوص قد تعرّضوا لهم، قال: وكان أشدّ أصحابنا والمنظور إليه منا فتىً يقال له دومني بطل شديد لا يهوله شيء مطاعن مسابق، فحمل على رجل منهم فعطف عليه الرجل فقطع أنف دومني ونزع خصييه وكسر أسنانه فرجع منهزماً، فغاظني ذلك فوثبت وأخذت كسائي وطويته بطاقين ولففته على يديّ وأخذت عصاي وأخذ آخر ملحفة والدته فلفها على ذراعيه وأخذ آخر طبقاً كبيراً من أطباق الفاكهة فستر به وجهه وخرجنا وتقدم رئيسنا ابريقياء وقد لفّ على يده قطيفة وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابن كلب

فقال له بعض اللصوص: ما ننكر ذلك عليك. فشدّ عليه ابريقياء بأسفل دنٍّ كان معه فلم يُحِك فيه، فأخذ اللص أسفل الدن فرمى به ابريقياء فهشم وجهه وكسر أسنانه، وتنحّى ابريقياء وأقبل منا آخر يسمى لقوة وأنشأ يقول:

إن عصايَ فاعلموا مقيّره ... أضرب بها وجه اللصوص الكفره

ثم شد على واحد منهم فضرب مفرق رأسه فلم يحك فيه واستلب العصا منه وطلاه بها طلياً فإذا هو قد خلع منكبه وكسر أضلاعه وبقي لا يحلّي ولا يُمرّ. ثم أقبل فتى من أصحابنا وفي يده مجرفة وهو يقول:

أنا ابن الكهل في يدي مجرفه ... والله لو كان بكفّي مغرفه

وهي لعمري قد كستني ملحفه ... والدتي كريمةٌ منظفه

قتلتكم فكيف عندي مجرفه

فضرب بالمجرفة واحداً من اللصوص فأخطأه وعطف عليه اللص فأخذها من يده ثم ضربه بها ضربة فدار سبع مرات وسقط وقد غشي عليه. فلما رأيت ذلك عدت إلى الطعان وأنا أقول:

أنا فلان سيد الفتيان ... أنا ابن حمران فتى الميدان

أحلف بالله وبالفرقان ... لأضربنّ القوم بالمميان

ضرب غلامٍ ماجدٍ كشحان ... والعجز منسوبٌ إلى الجبان

فأشدّ على واحد منهم فأضرب كفيه، فوثب قبل أن تصل إليه الضربة فضربني فهشم أنفي وكسر أسناني وخررت مغشياً عليّ ثم فتحت عيني فلم أر منهم أحداً ولا أدري كيف أخذوا، فالحمد لله على الظفر.

ما قيل في ذلك من الشعر

ما أحسن الضربة في وجهه ... إن لم تكن رمحة برذون

ولآخر:

ويحسبها الشجاع قراع سيفٍ ... ويحسبها الجبان قراع ثور

ولآخر: جبان اللقاء وعند الخوا - ن أمضى وأشجع من رستم

فلو كنت تفعل ذا في الحروب ... أغرت على الترك والديلم

كاتب الحسن بن زيد:

ظلت تشجعني ضلاًّ بتضليل ... وللشجاعة خطبٌ غير مجهول

هاتي شجاعاً بغير القتل مصرعه ... أوجدك ألف جبان غير مقتول

الحرب توسع من يصلى بها حرباً ... يُتم البنين وإثكال المثاكيل

واسم الوغى اشتُقّ من غوغاء تبصرها ... يغدون للموت كالطير الأبابيل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015