وقال المبرد: أحسن ما سمعت في حفظ السر ما روي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه:

فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا

فإني رأيت بغاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا

قال العتبي:

ولي صاحبٌ سري المكتم عنده ... مخاريق نيران بليلٍ تُحرَّق

عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان ما تتخرق

فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار نفسي بالأحاديث تغرق

فلا تودعن الدهر سرك جاهلاً ... فإنك إن أودعته منه أحمق

وحسبك في سر الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأديب الموفق

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق

ولآخر:

ولربما اكتتم الوقور فصرّحت ... حركاته عن كتمانه

ولربما رزق الفتى بسكوته ... ولربما حرم الفتى ببيانه

ولآخر:

لا يكتم السر إلا كل ذي خطرٍ ... والسر عند كرام الناس مكتوم

والسر عندي في بيت له علقٌ ... قد ضاع مفتاحه والباب مردوم

قال: ودخل أبو العتاهية على المهدي وقد ذاع شعره في عتبة فقال: ما أحسنت في حبك ولا أجملت في إذاعة سرك. فقال أبو العتاهية:

من كان يزعم أن سيكتم حبه ... أو يستطيع الستر فهو كذوب

إذا بدا سر اللبيب فإنه ... يبد إلا والفتى مغلوب

الحب أغلب للرجال بقهره ... من أن يرى للسر فيه نصيب

إني لأحسد ذا هوىً مستحفظاً ... لم تتهمه أعينٌ وقلوب

فاستحسن المهدي شعره وقال: قد عذرناك في إذاعة سرك ووصلناك على حسن عذرك على أن كتمان ذلك أحسن من إذاعته.

وقال المهلب بن أبي صفرة: ما ضاقت صدور الرجال عن شيء كما ضاقت عن السر.

وقال زياد: لكل مستشير ثقة ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر وترك النصيحة، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخريّ يرجو ثواب الله، ورجل دنيوي له شرف في نفسه وعقل يصون به حسه، وهما معدومان في هذا الدهر.

محاسن حفظ اللسان

قال أكثم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكيه، يعني لسانه. وقال الشاعر:

رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثاً مغارا

ومنه قول أكثم: رب قولٍ أشد من صول. وقوله: لكل ساقطة لاقطة. الساقطة من الكلام لها لاقطة من الناس.

وقال المهلب لبنيه: اتقوا زلة اللسان فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من عثرته ويزل لسانه فيكون فيه هلاكه.

وقال يونس بن عبيد: ليست خلة من خلال الخير تكون في الرجل هي أحرى أن تكون جامعة لأنواع الخير كلها من حفظ اللسان.

وقال قسامة بن زهير: يا معشر الناس إن كلامكم أعثر من صمتكم فاستعينوا على الكلام بالصمت وعلى الصواب بالفكر.

وقال الجاحظ: جرى بين شهرام المروزي وبين أبي مسلم كلام، فما زال أبو مسلم يقاوله إلى أن قال شهرام: يا لقيط! فصمت أبو مسلم، وندم شهرام، فما زال مقبلاً عليه معتذراً وخاضعاً متنصلاً. فلما رأى ذلك أبو مسلم قال: لسان سبق ووهم أخطأ وإنما الغضب شيطان وما جرأك غيري بطول احتمالي فإن كنت متعمداً للذنب فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوباً فالعذر سبقك، وقد غفرنا لك على كل حال. فقال شهرام: أيها الأمير عفو مثلك لا يكون غروراً. قال: أجل. قال: فإن عظم ذنبي لا يدع قلبي أن يسكن. ولجّ في الاعتذار. فقال لأبو مسلم: يا عجبا! كنت تسيء وأنا أحسن فإذا أحسنتَ أُسيء.

وشتم رجل المهلب فلم يجبه. فقيل له: حلمت عنه؟ فقال: لم أعرف مساويه فكرهت أن أبهته بما ليس فيه.

سلمة بن القاسم عن الزبير قال: حُملت إلى المتوكل فأُدخلت عليه فقال: يا عبد الله الزم أبا عبد الله، يعني المعتز، حتى تعلّمه من فقه المدنيين. فأُدخلت إلى حجرة فإذا أنا بالمعتز قد أتى في رجله نعل من ذهب، فعثر حتى دميت رجله، فأتي بإبريق من ذهب وطست من ذهب وجعل يغسل ذلك الدم وهو يقول:

يُصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجل

وعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته في الرجل تبرا على مهل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015