بحفظ نص ما، ولكن جاء الوحي الإلهي لبيان واقع الحال على اليقين، وإعلاماَ بأن أفعال البشر تلك لن تكون السبب في حفظ القرآن {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} سواء بحفظه أو تأليفه، فلا تتكل على تلك الأفعال، بل توكل علينا وتيقن بأن الله سيحفظه ويرعاه حق الرعاية {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} فهو الدور الإلهي لا دور البشر ولا دور أفعالهم، وكما يسَّر الله للبشر نَبِيًّا صَادِقًا كريما لتصل الرسالة لهم على لسانه، يتعهد الله بأن يحفظه في صدرك كاملاً غير منقوص، ويتعهد بتيسير حفظه في صدور المتلقين بعد تلقيه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتعهد بجمعه في صدور المؤمنين غير منقوص، وتيسير التأليف له ليكون قرآنا يتلى من كتاب واحد، وعهد الله كان بالحفظ والتأليف طبعاً، وما من شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان همه الحفاظ على القرآن بكل الأشكال، وليس التأليف مما طلب منه، وهذا لعلمنا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميّاً لا يكتب، ولذلك {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} أي اتبع ما يتلى عليك من القرآن وما يلزمه من دعوة للناس إلى التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتتم الرسالة بالتبليغ والعمل بها {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وهنا تنبيه للسامع بثمّ، أي انتبه فبعد كل ما ذكر، وبعد هذا التعهد العظيم، فإن بيان القرآن للناس بكل الوجوه على الله أيضاً، فلن يضيع منه شيء حتى يُجمع في الصدور والسطور كامِلاَ من غير زيادة أو نقصان.

وعليه فإن من بيان الله لقرآنه بيان هذه الحروف، وما على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا التبليغ بها كما جاءت، فإن قال قائل: هل ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حروف الفواتح شيء غير قوله «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وقوله «إن بيّتكم العدو فليكن شعاركم: حم لا ينصرون» قلت: لا، والسبب لا لأنه لم يصلنا شيء من بيانه لها كما زعم البعض، بل لأنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن ما نحن بحاجة إليه في معانيها بقوله الأول، وإحدى إشارات الإعجاز فيها بقوله الثاني، أما دلالات الحروف فلا، لأنه لا يكتب ولا يعرف علم الحروف والكتابة، لا العربية ولا غيرها، وكان عدم ذكره لهذه الدلالات سبباً من أسباب حفظ القرآن، فبيان هذه المقاصد لا يكون إلا بنقلها كما هي لمن يعرف الكتابة، وبيانها بعد ذلك يكون عليهم بكتابتها كما تلفظ أولا، وبيانها بعد الكتابة بقراءتها كما نزلت ثانياً.

ومن هنا نعلم بأن هذه الحروف قد أثقلت على الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ألزمتهم بنقل القرآن كتابة وَنُطْقًا، مع وجود طريقة معروفة وموثوق بها تخفف عنهم هذا العبء، وهي كتابة الحواشي، وهي طريقة بسيطة، ولم تخف عليهم ولن تخفى على من يعرف الكتابة، ولكنهم لو وضعوا الحواشي على كل فاتحة من السور لبيان اللفظ لألزمهم الشرح، ولو أردنا بيان اللفظ بكتابته لن يستقيم، مثلاً لفظ (كاف ها يا عين صاد) لا يكتب إلا بالإشارة لكلمات أخرى مثل (كاف من كاف، ها من هاد، يا من كريم، عين من عليم، صاد من صمد) وعليه ستكون الحاشية متضمنة شرحاً - طال أو قصر- وستكون مفتاحا لكتابة الحواشي على القرآن، وبما أنهم - رضوان الله عليهم - هم القدوة والأمنة على كتاب الله لم يفعلوها، وإن كانوا قد بيّنوها بما يوافق هذا البيان، كما روي عن ابن عباس بقوله: اسم مقطع، وقوله كاف من كاف وغير ذلك، فقد علموا أنها ستكون موطن سؤال واستفهام، ولم يضعوا حاشية واحدة تبين اللفظ. وعليه من سيقوم بكتابة الحواشي على القرآن بعد هذا؟ لهذا السبب نرى الإجماع على كراهة كتابة الحواشي على القرآن ولو كان بقصد التعليم، "فلا تجوز وإن احتيج إليها لما فيه من تغيير الكتاب عن أصله ولا نظر لزيادة القيمة بفعله" (?)، فقد كانت هذه الحروف أحد الأدلة الظاهرة البينة على هذا الإجماع، وإن لم يأت الأمر صراحة في القرآن والسنة، وقد سبق الحديث

طور بواسطة نورين ميديا © 2015