وجد اللّه .. وجده في إدراكه ووعيه، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره .. ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير.

فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة .. إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع والذي لا يكل اللّه - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها، فيبينه لهم في رسالات الرسل، ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم، وهي مناط الحساب والجزاء، عدلا منه ورحمة، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما ..

فأما إبراهيم - عليه السّلام - فهو إبراهيم! خليل الرحمن وأبو المسلمين .. «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً. قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .. إنها صورة لنفس إبراهيم، وقد ساورها الشك - بل الإنكار الجازم - لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام. وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله، وتزحم عالمه .. صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» .. كأنما الليل يحتويه وحده، وكأنما يعزله عن الناس حوله، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً، قالَ: هذا رَبِّي» ..

وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم - كما أسلفنا - فلما أن يئس من أن يكون إلهه الحق - الذي يجده في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية - صنما من تلك الأصنام، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة! وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم. وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا .. ولكن الكوكب - الليلة - ينطق له بما لم ينطق من قبل، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله، ويزحم عليه عالمه: «قالَ: هذا رَبِّي» .. فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب - من الأصنام - إلى أن يكون ربا! .. ولكن لا! إنه يكذب ظنه: «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015