وقال في شكاية طريفة الأسلوب بليغة المعنى، وهو يحضه على العدل: "أقم العدل لرب العدل الذي عدل عدالته موجود، ويا قلم تحوتي وقرطاسه ولوحته، تنزهوا عن عمل السوء، فإنما الخير بالخير، والحسنى لها ما هو أحسن منها، والعدل باق إلى الأبد يهبط مع صاحبه إلى الجبانة، فإذا دفن احتوته الأرض معه، ولن تزول سمعته من هذه الدنيا، ولسوف يذكر بالخير، وهذا هو خير ما في أقوال الرب ... ، فمن يكن سندًا لا ينبغي له أن يميل، ومن يكن ميزانًا لا ينبغي له أن يتذبذب. وسواء جئت أنا أم أتى غيري وجب عليك أن تتحدث ولا تنصت هكذا إليَّ كما لو كانت أحادث شخصًا أخرس ... ". إنك لا تلين ولا تضعف ... ، وما جازيتني على أحاديثي الحسان التي صدرت عن فم الإله رع نفسه، ... قل الحق إذن وافعل الصواب فالعدل عظيم وخالد ... ".

ولم يكتف القروي بالنصيحة والحديث عن واجبات الحكام، وإنما أخذ يشتد على ناظر الخاصة ويعنفه، وكان من قوله له: "إنك قادر ومقتدر، وذراعك طائلة، ولكن فؤادك قاسٍ، والرحمة قد تجاوزتك، فما أتعس المحزون الذي تحطمه. لكأنك رسول لرب التمساح، بل إنك زدت عن ربة الوباء، وإذا كان العدم يرتجى منها، ارتجى منك العدم ... ".

وترتب على عنف القروي في حديثه أن أمر رنسي بضربه بالسياط، ولكنه لم يرتدع، وقال بعد ضربه: "ضل ابن مرو طريقه، وعمي وجهه عما يراه، وأصيب بالصمم عما يسمعه، وضل ضميره عما يذكر به. إنك أشبه بقرية بغير عمدة، وجماعة لا كبير لها، ومركب لا ربان فيها، وعصبة لا هادي لها. أنت نبيل نهاب، وحاكم مرتش، وكبير لمنطقة كان ينبغي أن يمنع الاختلاس ولكنه أصبح نموذجًا لمن يود أن يختلس".

وزاد خون إنبو فعرض خلال شكاواه لناظر الخاصرة بالصفات التي كانت تنسب عادة إلى الفرعون، ولو أنه لم يذكر الفرعون صراحة، فقال: "أنت رع رب السماء وسط حاشيتك ومنك قوام الخلق جميعهم. وأنت كالفيضان، بل أنت حعبي صاحب الفيضان الذي يسبغ الخضرة على الحقول ويعمر البراري، فاقطع إن دابر النهب وأوقفه وأكرم البائس، ولا تكن فيضانًا ضد الشاكي، واحذر قرب الآخرة".

وأطال القروي في شكاياته، ولما فرغ معينه منها استدعاه ناظر الخاصة، فتوقع الرجل أن تكون الدعوة لمقتله، وأخذ يروض نفسه على ملاقاة الموت في شجاعة، ولكن رنسي طمأنه وأراه شكاواه منسوخة على برديات جديدة أعدها ليعرضها على الفرعون شخصيًّا، فلما عرضها على مولاه أمره بأن يقضي في القضية بنفسه، فقضى بتجريد تحوتي نخت من ممتلكاته، ووهبها كلها للقروي فضلًا عن حميره وبضاعته.

تلك فيما رأينا نماذج يسيرة من الأدب المصري القديم، تشهد على الرغم من قلتها وقدمها البعيد وصعوبة التعبير عن ألفاظها، على عقليات ناضجة وأحاسيس نابضة وأذواق مرهفة، ويمكن أن نضم إليها ما سبق أن استشهدنا به في بقية صفحات هذا الكتاب من أدب السياسة والحكم، في مثل نصائح خيتي لولي عهده

طور بواسطة نورين ميديا © 2015