وقصرت المدرسة الإنجليزية تطورات تاريخ الحضارة على إيحاء عبقريات فردية جبارة فرضت نتائج فكرها على جموع الناس. وقدرت بالتالي أن نصيب الحضارات من الازدهار أو التخلف أو التدهور إنما يرتبط بوفرة أو ندرة ما يظهر من العقليات المبدعة في كل مرحلة من مراحلها. وتجاوبت هذه الآراء مع ما حققه أفذاذ عصرها من تقدم علمي وانقلاب صناعي وانطلاق عالمي منذ القرن الثامن عشر وما تلاه.

وفي المدرسة الفرنسية تداولت النهضة الفكرية في القرن الثامن عشر، مذهبين أساسيين: فرد "مونتسكيو" الفوارق بين الحضارات على فوارق بيئاتها المناخية وظروفها الخاصة، بمعنى أنه إذا تشابهت الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان، إلا أنها تسلك مسالك متباينة بوحي البيئات التي تعايشها. وذهب "جان جاك روسو" في أولية أثر الإنسان على أثر البيئة، إلى أن عامل الزمن في مسيرة الحضارة، وتأثير الظروف الخاصة المحيطة بأهلها، ثم مدى وضوح إرادة المجموع، ومدى فاعلية التربية في بنيان المجتمع، كل ذلك له تأثيره في تطور تواريخ الشعوب. ونادى بالاعتراف لكل حضارة، أيامًا كانت مرتبتها، بجهودها وقيمتها الذاتية، مع اعتبار كل منها حلقة من سلسلة تطور طويلة لا تزال الملكات البشرية تنتجها في مختلف الدهور والظروف.

ومع النهضة البروسية الجرمانية، ذهب "هيردر" إلى أن تاريخ كل شعب هو حصيلة للفعل المتبادل بين مجموعتين من القوى: القوى الخارجية التي تشكل محيطه الجغرافي، والقوى الباطنية التي يعبر عنها بروح الشعب. وهذه الأخيرة هي الأهم والأبقى. فلكل شعب روح من نوع معين توارثها في تكوينه فأصبحت تترجم عنه وتعبر عن نفسها في كل ما خرج أهلها به من نظم وتقاليد، ومثل عليا للحياة. كما غدت بالتالي هي المسئولة عن صورة تاريخ شعبها. وعدل "هيجل" هذا الرأي إلى رأي آخر، قال فيه إن لكل شعب عبقريته الخاصة التي تنعكس على ما يأتيه من أعمال في عالم الفكر والمادة، وبهذه العبقرية يساهم كل شعب مساهمة خاصة قدرت له في نطاق إمكانياته، في صنع تاريخ العالم. ثم أخذ برأي للفيلسوف "كانت" مؤداه أن التاريخ هو تاريخ المجموع، ينظر المفكر إليه ككل ويتغاضى فيه عن الجزيئات، ويرى فيه لكل شعب مكانًا في مسيرة عالمية تتيح الدنيا في نهاية أمرها تحقيق أسمى معانيها، وهو معنى التوازن عند "كانت" ومعنى الوعى الكامل بالحرية عند "هيجل". وكان "كانت" قد استهل فلسفته التاريخية بفكرة مسبقة خلاصتها أنه ما من شيء في الكون إلا ويسعى إلى غاية عظمى ينتهي إليها. ومن هذا المنطلق رأى أن وقائع الماضي التي قد تبدو متناثرة بغير قيمة تذكر – تتجلى في مجملها وكأنها تخدم هدفًا أعظم. ذلك لأن التاريخ يكاد يتبع خطة طويلة المدى غايتها البعيدة هي الأنواع الإنسانية ككل، ولو أدت إلى التضحية بمنفعة الجزء أو الفرد. وارتأى "كانت" أن السلام والعداء وإن كانا طرفين متناقضين، إلا أنه لا مندوحة عن تواجدهما معًا لتحقيق التوازن، والحض على التفوق.

وما من شك أن لكل رأي من هذه الآراء قيمًا كبيرة لا تجحد. وإذا كان ثمة ما يضاف إليها، فهو أنه تحت الظروف الخاصة بكل أمة، وروحها أو عبقريتها، هي المؤثرة وحدها في تطورات تاريخها، فقد تبقى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015