ثم أقلعنا وما كادت تغيب الأرض عنا حتى ثارت لواعج الأشواق في صدري وخطر ببالي كل ما قلته لي مصبوغا بالوسواس والهواجس. قال ومن كان حِلْس بيته لم يفارقه ولم تبرح رائحة زوجته منخريه لم يدرِ ما ألم الفراق بعد ليالي الوصل والعناق. ولا سيما إذا جرى ذلك أول مرة. فينبغي إذاً أن أصور لخاطر صاحبنا هذا الحلسيّ المغفومي بعض ما يقاسيه المحب من لوعة البين. عسى أن يرق فيدعو لجميع النائين عن أحبابهم بقرب الوصل وجمع الشمل فأقول: أن الفراق طالت مدته أم قصرت قربت طيّته أم بعدت عبارة عن فصل أحد المتواصلين وحرمانه من أنس صاحبه. وقد تكون لوعته اشد من لوعة الموت لأن فراق الميت مقرون بالأسف والتحسّر. وفراق الحيّ بهما وبالغيرة أيضا. وهي في مقابلة اليأس المتسبب عن فراق الميت بل هي أشد مضضا منه. هذا في حق المتزوجين المتحابين فأما في حق الكارهين فلا آسف ولا حسرة على كلا الحالين. ثم أن المحب المفارق إذا فارق حبيبه ورغد عيشه في غير وطنه. من طعام لذيذ يأكله أو مسامرة مطربة أو سماع غناء يتلذذ بهما أو رؤية أشياء بديعة ووجوه ناضرة سنيعة تقرّ بها عينه. فأول ما يخطر بباله إنما هو حبيبه النائي فيقول في نفسه ألا ليته الآن حاضر عندي ليشاركني في هذا النعيم. فإني احسبه اليوم محروماً منه بل ربما كان على قلبه غشاوة من الحزن والكمد. فكيف يتأتى لي أن ألهو وأفرح وهو محزون. وكيف يمرئني الطعام ويسوغ لي الشراب وهو الآن لعله مُقْهٍ عنهما وحشة واكتئابا إلى غير ذلك من الخواطر المكدرة والأفكار المحّسرة. فأما إذا قاسى جهداً ونكداً بعد فراقه فإنه يقول ويَبْاً لي وويحاً وويخاً وويساً وويلاً وويهاً. إن عيشي الآن نكد ذميم. وحالتي موحشة وفؤادي كليم. وقد جرى بيني وبين أليفي الاتفاق على أن نكون شركاء في السراء والضراء والنعماء والبأساء. وأحسبه الآن مفنّقا منعّما. مترفها برثا برجا بَرِعا طَرحا يسامره في الليل كل ربيز ظريف. ويجالسه في النهار كل كيس لبيب. ألا وكأني به أي بها تبتسم الآن ابتسامة رضى وإعجاب لمن طرأ على محاسنها وجمالها فقال لها. ليتك كنت تتخذين عوذة لتردّ عنك عين الحسود فإني لا أسمح بهذا الوجه المنير الوضّاح أن يراه كل أحد من الناس. ولا ينكر أن يتشهق عليك من ابتلى بامرأة دميمة فإن العين حق وإن جمالك فريد فما يكون جوابها له إلا أن تقول له: ما أحسن عينيك فإنهما تريان الشيء كما هو. فأما عينا زوجي فإن عليهما غشاوة. وإن من مذهبه الفاسد أن يقول إن العين إذا ألفت شيئاً مهما كان بديعاً في الحسن قلّ اشتياق النفس إليه. أو كما تقول العامة ما تملكه اليد تزهد فيه النفس. غير إني أخشى من إنك إذا أكثرت من النظر إليّ والقرب مني لا تلبث أن تتمذهب بمذهبه فتراني على غير ما أنا عليه الآن. فيقول لها معاذ الله هذا كلام الجهال. فأما الصادقون مثلي في الحب وهيهات مثلي. فإنهم أبداً يتمثلون بقول أبي نواس:

يزيدك وجهها حسنا ... إذا ما زدته نظرا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015