ولكن لو كانت روايته هذه في اللغة العربية وبلغت مسامع أهلها لعقدوا عليه مجلسين أحدهما عامي والآخر خاصي ففي العامي يقول أحدهم ما شاء الله يا خي مرثية في ختام العرس أسمعوا يا ناس وتعجبوا من حذق هذا الراوي. فيقول الآخر أي والله مرثية بدل الغناء عمركم يا ناس سمعتوا كلام زي دا. فيقول غيره لا حول ولا قوة إلا بالله ما لقيش المغفل دي إلا الرثاء يجعله في ختام العرس. فيقول آخر حسبنا الله ونعم الوكيل يمكنش غفله أعظم من دي أهل العرس يختموا فرحهم بمرثية وما يتطيروش. فيقول غيره الله على دي الراوي هو مغفّل ولا مجنون حتى يكذب على الناس الكذب دا ويملأ كتابه بالهجس والكلام الفارغ. فيقول آخر يا سلام دا الله أغرب ما سمعت أن الناس يستعملوا النواح عوض الغناء والبكاء عوض الضحك والصفع على القفا بدل المصافحة باليد. فيقول غيره ولكن الناس دول اللي قروا كتابه حمير ولا مجانين ما كانش فيهم واحد يقول له "إذا كان نصرانياً" يا خواجا "أو إذا كان مسلماً أو مستسلماً" يا أفندي أهل بلادك يتطيروا ويتشاءموا كثيراً فيما يصحش أن الرثاء عندهم يستعمل في الأعراس. فيقول الآخر سبحان الله هو حمار ضحك على حمير يا خي خلونا منه. فيقول غيره لا إله إلا الله نحب نعرف السيرة أيه أن كان كلامه دا جدّ ولاّ مزح. فيقول آخر مزح أزاي اللي هو طابعه في كتاب سنباع في الدكاكين ومصور عليه صورته بسيف وحمايل وأزرار. فيقول غيره بقا نقول أزاي يبقى الإنكليز يبلغوا كل شيء يستغرفه في حلقهم الغريب اللي عنده سيف بأزرار وحمايل. فيقول آخر أظن الإفرنج كلهم يصدقوا الخرافات. فيقول آخر ياخي دا باب واسع أول الكلام وآخره غفلة من الراوي وحماقة من السامعين. إلى غير ذلك من الانتقاد والتعنت.

فأما في المجلس الخاصي فإن القضية تبلغ فيه مبلغاً أعظم من ذلك وأخطر فإنهم يصورونها في صور فتاوى علمية وأجوبة فقهية فيستفتي أعظم أدباء المجلس قائلاً: ما قول أمام الأدباء، وتاج الألباء. في مؤلف زعم أن أهل الشام يستعملون المراثي في ختام أعراسهم. فهل تقبل له شهادة أو لا؟ الجواب. لا تقبل له شهادة عندنا على ذنب حمار. وان باع كل نسخة من كتابه عند الإفرنج بدينار. صورة استفتاء آخر: ما قول عمدة المصنفين، وقدرة المؤلفين، في مدّع ادعى انه سمع بكلتا أذنيه مرثية تنشد في ختام عرس في الشام الشريف. فهل يصدق كلامه وتجوز مطالعة كتابه أو لا؟ الجواب. لا يصدق ولا يوثق بما رآه بعينيه لا في الليل ولا في النهار. ولا بما سمعه بأذنيه وان كانتا كأذني الحمار. استفتاء آخر: ما قول من كلامه مزيل للإيهام، وموضح للإبهام، في كاتب أودع في كتاب ألفّه كثيراً من الروايات الهذاهذية والحكايات الاقناسية. وزعم في جملة ما قاله أن أهل الشام ينشدون المراثي في ختام أعراسهم. فهل يحمل كتابه كله على هذا الكذب أولا؟ الجواب. من كذب في قضية معلومة مثل فأحرى به أن يكون كاذبا في سائر القضايا فالأولى حمل كتابه كله على الكذب. استفتاء آخر: ما قول اجل النقاد. وحجة ذوي الرشاد، في رجل ألّف كتاباً ذكر فيه أنه يعرف كثيراً من الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء. وإنهم له أصحاب وخلان وانساب وأخوان. ثم ذكر في موضع من الكتاب أنه حضر عرسا في دمشق المحروسة كان مزينا بالزهور والرياحين، والمغنيات والمغنين. وكان ختام ما غنّوا به مرثية قيلت في امرأة. فهل على فرض كونه كاذباً في هذه تشفع له معرفته بالوزراء في تصديقه بغيرها؟ الجواب. ما هو بصادق في هذه ولا في غيرها ولا تشفع له معرفته بالأمراء في شيء كما ورد.

لن تنفع الراوي الأفّاك نحلته ... بأنه يعرف الأعيان والأمرا

استفتاء آخر: ما قول من لا يعلو قول على قوله، ولا يقطع أمر إلا بفصله، في رجل ذي رُواء، وسراويلات مفرسخة من أمام ومن وراء، ألف كتاباً ضمنه ما سمعه وما رآه في بلاده. وكان من جملة ذلك قوله إنه رأى عروساً تزف وتنشد بين يديها مرثية في امرأة. فهل يعتمد على رُوائه بالأخذ في روايته؟ الجواب. ليست الرواية من الرواء. ولا يعتمد على زيّه في الإخبار عن ميته وحيّه، كما ورد:

لن تنفع الراوي الأفاّك حليته ... ولا سراويله أن فاه أو سطرا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015