وأقول أن المحبة مما غرس في الطبيعة البشرية من يوم الوضع في المهد إلى يوم الوضع على النعش. فلا بدّ لهذا المخلوق الآدمي من أن يحب ذاتا من الذوات أو شيئاً من الأشياء أو معنى من المعاني. وكلما زاد حبه في قسيم منها نقص في قسيمه الآخر. وقد يكون إحداها سبباً في زيادة حبّه للآخر. مثال ذلك من كلف بالشعر أو الغناء أو التصوير فكلفه هذا يكون باعثاً له على حب الذات الجميلة. ومن كلف بالعلم والقتال والفخر والسيادة فلابد وان تقل رغبته في النساء بل ربما لهي عنهن بالكلية. ومن كلف بالخيل المطَّهمة والسلاح النفيس فقد يكون كلفه هذا شائقاً له إلى حب الذات أولا. وعدّ بعضهم من هذا النوع السراباتية وهم المنظّفون للمراحيض. وأسقطه غيرهم بدليل إنها حرفة يحتاج إليها الإنسان لتحصيل معاشه لا كلف من هوى النفس. فهذه ثلاث حالات متسببة عن ثلاثة أسباب. وهناك أيضاً ثلاث أحوال أخرى باعتبار القلة والكثرة وما بينهما. الأولى متعادلة وهي ان يحب المحبّ محبوبه كنفسه. فلا تطيب نفسه بشيء ولا تهنئة لذة إلا إذا كان محبوبه مشاركا له في تلك اللذة. وذلك صفة الرجل قبل زواجه وبعيده. ولا تخلو هذه الصفة عن الرشد والبصيرة. الثانية المتعدية أي المجاوزة للمتعادلة. وذلك كان يحب المحبوب حبيبه اكثر من نفسه. وذلك صفة الأب والأم في حبّ ولدهما وصفة بعض العشاق. أما الأب فإنه يفدي بروحه ويحرم نفسه من اللذات والمسرات حتى يمتّعه بها. فإذا رأى نفسه عاجزا عن الأكل والبعال ورأى ابنه يأكل ويباعل لذَّ له ذلك وهو مع هذا غير خال أيضاً عن الرشد والتمييز. فأما العاشق فإنه يؤثر معشوقه على نفسه غير أن أفعال تكون مختلة في غير محلها ووقتها. والثالثة معلومة وهي أن يحب الإنسان محبوبه مع إيثار نفسه عليه وهو الأغلب. وهناك أيضاً ثلاث أحوال أخرى مكانية وهي القرب والبعد والتوسط. ولها تأثيرات مختلفة بحسب اختلاف طباع الناس فالصادق الود يحب في حالتي القرب والبعد على حدّ سوى. بل ربما كان البعاد مهيجا له إلى زيادة الشوق والغرام. وما احسن قول من قال في هذا المعنى.

كأن الهوى شمس أبي إن يردها ... مهاة نوىً لا بل تزيد بها حرا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015