التّعب والعناء ما يلقى في التجارة، والزراعة، والصناعة، وغير ذلك من وسائل الكسب. وليس لجسم الإنسان من الفرو الضّافي، والجلد المتين ما يدفع عنه عوادي البرد القارس، والحرّ اللافح (?) ، لذلك هو مضطرّ إلى أن يعدّ بنفسه ما يقي جسمه حرارة القيظ، ولوافح السموم، وبرودة الشتاء، وسواقع الزّمهرير (?) ، فيصنع مختلف الثياب المناسبة لكلّ جوّ، ويعالج ما يصاب به من أمراض بما هداه إليه إدراكه من عقاقير، وأدوية، ووسائل.

ومن كان من المخلوقات أقلّ نصيبا من الإدراك، وأضعف حيلة في الحصول على متع الحياة، وأسباب العيش، تداركته الفطرة الإلهية، فمنحته في نفسه، وجسمه من أسباب الوقاية وأسلحة الجوارح ما يدفع به عن نفسه عادية الكون ومخلوقاته، ويسّرت له سبل العيش: فمن الحيوانات ما وهبه الخلّاق العظيم مخالب قاطعة، وبراثن مرهفة، ومنها المسلح في فمه بأسنان مفترسة، ومنها ذوات القرون، وذوات الأجنحة، والسوابح في اليمّ، والمدافعة عن كيانها بالحمة السّامة، إلى غير ذلك من الأسلحة والجوارح التي عوّض الله بها لبعض خلقه عما فقده من نعمة العقل، ونور البصيرة، ومذاهب الرأي. أما الإنسان المجرّد من مثل خرطوم الفيل، وقرن الثور، وسمّ الأفعى، وحمّة العقرب وسائر أسلحة الدوابّ والهوامّ، فكان لذلك أعزل ضعيفا، إلا أنه قد أوتي من العقل الكامل، والشعور الشامل، والحسّ المرهف، والفهم الثاقب، والبصيرة النافذة، ما لم يؤت أحد من خلق الله مثله. وهذه المواهب التي امتاز الإنسان بها على سائر المخلوقات تغنيه عما فقده من القوى الجسمية التي امتازت عليه بها الحيوانات القويّة، فاستطاع أن يسخّر الفيل العظيم الهيكل ذا الخرطوم الطويل، وأن يستذلّ الأسد الضّاري ذا البراثن الحديدية، وأن يقبض على الأفعى الثائرة، ويصيد الطيور المحلقة في جو السماء، بل صار لا يعييه حوت في لجج البحار الزاخرة، ولا وحش غابة كثيفة من الوحوش

طور بواسطة نورين ميديا © 2015