والكتابة والخطابة تشتركان في الإجادة والتنسيق ولكنهما تختلفان في التعبير؛ لأن تعبير الخطيب خاضع لذوقه، وما يدعو إليه المقام من تقصير الجمل أو تطويلها، ومن تكرار أو إيماء، وانتقاء للألفاظ الخفيفة على السمع، أو التحليق في سماء الخيال حينًا، وإيثار النكتة حينًا آخر، مع الإشارة والحركة ونبرة الصوت ونفوذ الخطيب، وغيرها مما يتطلبه فن الخطابة، ثم لا بد في أسلوب الخطبة من الوضوح والسهولة. أما تعبير الكاتب ففيه ترو وتأنق وتصعيب أحيانًا؛ لأن للقراء فسحة من الوقت يفكرون فيها في معنى ما استغلق، ويكررون تلاوته، فلا ضير أن يصعب الكاتب ويعلل ويحلل، أما الخطيب فإنه يقذف بكلماته، فيتلقاها الجمع في سرعة لا تيسر له مراجعتها أو التوقف لتفهمها؛ لأنه مضطر إلى متابعة الخطيب وتلقف ما يقول، فإذا توقف للتفهم انقطعت صلته بالخطيب فضاعت قيمة الخطبة.

وكثيرًا ما ينزل التعبير الخطابي عن مكانة التعبير الكتابي في جودة المبنى ودقة المعنى، ولكنه يستعيض عن هذا النزول مؤثرات أخر؛ مِن فصاحة النطق، وجهارة الصوت، وإجادة الأداء، وروعة الموقف، ولهذا فإن بعض الخطب مسموعة ذات أثر قوي عميق في نفوس سامعيها، ولكنها مقروءة لا شيء من الامتياز فيها. والكلمات هي اللبنات التي يبني منها الأديب عمله الفني، فهي كالدهان في رسم الرسام، واللآلئ في أنامل اللآء، والأحجار في يد البناء، والصخور في محفر النحات، والأديب يستطيع بمواهبه وسعة حيلته أن يصنع منها صورًا عدة، تمثل العواطف المختلفة تمثيلًا كاملًا، وذلك برصفها وتأليفها في أسلوب خاص، فإن المفردات التي لا ينتظمها أسلوب لا أثر لها في النفس، وإنما يبين أثرها إذا ما صيغت لتصور عاطفة أو تعبر عن فكرة. والخطيب والأديب عامة يتخير الألفاظ المعبرة عن عاطفته، وينتظمها في نسق ملائم للمقام.

وللأسلوب في الخطبة قيمته وأهميته، فليست البلاغة أن تفهم المعنى فحسب، وإلا لتساوت الركاكة والتعبير والإشارة والجيد والرديء والعامي والفصيح،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015