) من ألْقى وَرَقَةٍ بِخَطٍّ دَقِيقٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَحْفَظُ من اللُّغَة مَا لم يحفظه أحد فِي زَمَانه وَلَا يعده إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، وَهَذَا جَمِيعُ كُتُبِهِ فِي اللُّغَة: الجمهرة والاشتقاق وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حِفْظِهِ وَمَا رَأَى أَحَدٌ مَعَهُ كِتَابًا قَطُّ، وَلَهُ مِنَ الشِّعْرِ مَا لَيْسَ لعالم قبله، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يستحضر علمه ويحضر نَفسه. وَذكر لي بَعْضَ غِلْمَانِهِ - ابْنِ بِسْطَامَ أَوْ غَيْرِهِ - تَطَاوَلَ عَلَى رَجُلٍ فَزَجَرَهُ، وَقَالَ: مَا الَّذِي يَعْجِبُكَ من نَفْسِكَ أَوْ يَعْجِبُكَ مِنِّي إِنَّ جَمِيعَ مَا يحفظه وَأكْثر مِنْهُ يَحْفَظُهُ رَاعٍ مِنْ رُعَاةِ الْعَرَبِ.

وَوَرَدَ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ فَقَادَ إِلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ فَرَسًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الرَّحِيلَ إِلَى مَدِينَةِ السَّلامِ، حَمَلَ إِلَيْهِ مِائَةَ دِينَار وأنشده: (وهون جدي إِن الْفِرَاق بَيْنََنَا ... فِرَاقُ حَيَاةٍ لَا فِرَاقُ مَمَاتٍ) فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، اجْتَهِدْ وَاطْلُبْ وَاسْهَرْ وَلا تَدَعْ أَحَدًا يَسْبِقُكَ فِي علمك وَلَو تشق نَفْسِكَ، فَإِنَّ الرَّفِيعَ مَنْ كَانَ ذَا سُلْطَانٍ أَوْ ذَا عِلْمٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحدهمَا تَركه النَّاس، وَرَأى أَعْقَابهم.

وَنحن نقُول: إِن صَاحب السُّلْطَان إِذا نظر حق النّظر، لم يمنح سُلْطَانه عوضا عَن الْعلم، فَإِن عز صَاحِبَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَدُومُ لَهُ مَا دَامَ فِي سُلْطَانِهِ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ ذلَّ، وَعِزُّ الْعَالم يَدُوم لَهُ فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته، وَلِهَذَا كَانَ فُضَلاءُ السَّلاطِينِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015