بِلَا رَيْبٍ إِنَّ هَذَا الْعِشْقَ مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ مَعْشُوقِهِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ كُلَّهُ فَصَارَ عَبْدًا مَحْضًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْشُوقِهِ، فَقَدْ رَضِيَ هَذَا مِنْ عُبُودِيَّةِ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ بِعُبُودِيَّةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ: فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ كَمَالُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ، وَهَذَا قَدِ اسْتَفْرَغَ قُوَّةَ حُبِّهِ وَخُضُوعِهِ وَذُلِّهِ لِمَعْشُوقِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ.

وَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ مَفْسَدَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَمَفْسَدَةِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِفَاعِلِهِ حُكْمُ أَمْثَالِهِ، وَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعِشْقِ مَفْسَدَةُ الشِّرْكِ، وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ مِنَ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: لَأَنْ أُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ مَعَ تِلْكَ الصُّورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فِيهَا بِعِشْقٍ يَتَعَبَّدُ لَهَا قَلْبِي وَيَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ.

[فَصْلٌ دَوَاءُ الْعِشْقِ]

فَصْلٌ

دَوَاءُ الْعِشْقِ

وَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءُ الْقَتَّالُ: أَنْ يَعْرِفَ أَنْ مَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْمُضَادِّ لِلتَّوْحِيدِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَهْلِهِ وَغَفْلَةِ قَلْبِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ تَوْحِيدَ رَبِّهِ وَسُنَّتَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَأْتِي مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِمَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ عَنْ دَوَامِ الْفِكْرَةِ فِيهِ، وَيُكْثِرُ اللَّجَأَ وَالتَّضَرُّعَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي صَرْفِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَأَنْ يُرَاجِعَ بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ أَنْفَعُ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 24] .

وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ مِنَ الْعِشْقِ وَالْفَحْشَاءَ مِنَ الْفِعْلِ بِإِخْلَاصِهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أَخْلَصَ وَأَخْلَصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ عِشْقُ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْبٍ فَارِغٍ، كَمَا قَالَ:

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا

وَلْيَعْلَمِ الْعَاقِلُ أَنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ يُوجِبَانِ تَحْصِيلَ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلَهَا، وَإِعْدَامَ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلَهَا، فَإِذَا عَرَضَ لِلْعَاقِلِ أَمْرٌ يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً وَمَفْسَدَةً، وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَمْرٌ عِلْمِيٌّ، وَأَمْرٌ عَمَلِيٌّ، فَالْعِلْمِيُّ: مَعْرِفَةُ الرَّاجِحِ مِنْ طَرَفَيِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الرُّجْحَانُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِيثَارُ الْأَصْلَحِ لَهُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015