أحدًا لا يعرفه مِثْله،. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم أشياء، ولا يُعرف أَنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلَّم في عِلْم من العلوم ـ سواء كان من علوم الشّرع أو غيرها ـ إِلاَّ فاق فيه أهلَه، واجتمعت فيه شروطُ الاجتهاد على وجهها، وكان إمامًا متبحّرًا فارغًا عن شهوات المآكل والملابس والجماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدْوِينِه والعَمَل بمُقْتَضاه، وقد عرض عليه قضاء القضاء قبل التسعين، ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك، وكان ممّن أدرك من العلوم حَظًّا، وكاد يستوعب السُّنَن والآثار حِفْظًا.

إِنْ تكلَّم في التفسير فهو حامل رايته، أَو أفتى في الفِقْه فهو مدرك غايته، أَو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أَو حاضر بالنِّحَل والملل لم يرُ أوسع من نحلته، ولا ارفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم ترعين من رآه مثله، ولا رأت عينه مِثْلِ نفسه.

وكان له خِبْرَةٌ تامَّة بالرِّجال، وجَرْحهم وتَعْديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٌ بفنون الحديث، وبالعالي والنَّازل، والصَّحيح والسَّقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر مرتبته ولا يقارِبُه، وهو عَجَبٌ في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إِلى «الكتب السِّتَّة» و «المُسند» - فلقد كَانَ عجبًا في معرفة الحديث، وكان يكتب في اليوم والليلة نحوًا من أربعة كراريس أَو أزيد.

وكتب «الحموية» في قعدة واحدة، وهي أزيد من ذلك، وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلّد، وكان ـ رحمه الله ـ فريد دهره في فهم القرآن ومعرفة حقائق الإيمان، وله يدٌ طُولى في الكلام على المعارف والأحوال والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه ومعوجّه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015