مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

- مَسْأَلَةٌ) قَالَتِ المُعَطِّلَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يُسْمَعُ، وِإِنَّمَا هُوَ يَخْلُقُ كَلَامًا، وَمِنْهُم مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ؛ وَأَمَّا أَلْفَاظُهُ وَحُرُوْفُهُ فَهِيَ مَخْلُوْقَةٌ. وَدَارَتْ شُبَهُهُم حَوْلَ أُمُوْرٍ هِيَ:

- الشُّبْهَةُ الأُوْلَى) أَنَّ القُرآنَ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيْلَ وَلَيْسَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى؟! كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُوْلٍ كَرِيْمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِيْنٍ} (التَّكْوِيْر:20)، أَوْ أَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُوْلٍ كَرِيْمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيْلًا مَا تُؤْمِنُوْنَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيْلًا مَا تَذَكَّرُوْنَ} (الحَاقَّة:42)؟

وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ:

1) مَا نُسِبَ فِي الآيَةِ مِنْ أَنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَمَفَادُهُ أَنَّ جِبْرِيْلَ يُبلِّغُهُ، فَنِسْبَةُ القَوْلِ إِلَى جِبْرِيْلَ هِيَ نِسْبَةُ تَبْلِيْغٍ؛ وَأَنَّهُ أَدَّاهَا بِأَمَانَةٍ دُوْنَ تَحْرِيْفٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفُهُ بِالرِّسَالَةِ وَلَمْ يَرِدْ بِاسْمِهِ المُجَرَّدِ، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ الرَّسُوْلَ يُؤَدِّي رِسَالَةَ مَنْ أَرْسَلَهُ بِهَا؛ وَلَا يَكُوْنُ القَوْلُ قَوْلَهُ.

وَأَيْضًا فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ تَجِدُ الأَمْرَ نَفْسَهُ حَيْثُ جَاءَ وَصْفُهُ بِالرَّسُوْلِ - أَيِّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ القَوْلُ عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ أَدَّى الرِّسَالَةَ بِأَمَانَةٍ دُوْنَ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ تَحْرِيْفٍ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا جَاءَ وَصْفُهُ بِالرِّسَالَةِ وَلَمْ يَرِدْ بِاسْمِهِ المُجَرَّدِ، وَتَأَمَّلْ تَمَامَ الآيَاتِ لِتَجِدَ بُرْهَانَ ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِيْنِ} (الحَاقَّة:45)؛ مِمَّا يَدُلُّ صَرَاحَةً أَنَّهُ مُبَلِّغٌ قَوْلَ رَبِّهِ بِدُوْنِ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ تَحْرِيْفٍ.

2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَلَامُهُ تَعَالَى وَلَيْسَ كَلَامَ البَشَرِ، وَهَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ مَنِ القَائِلِ بِهِ.

قَالَ تَعَالَى عَنْ قولِ المُشْرِكِيْنَ: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ البَشَرِ} (المُدّثّر:25)، فَعُلِمَ إِذًا أَنَّ هَذَا القُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ البَشَرِ.

3) أَنَّهُ لَوْ كَانَ القُرْآنُ كَلَامَ البَشَرِ لَمْ يَحَسُنِ التَّحَدِّيْ بِهِ؛ بِخِلَافِ كَلَامِ البَشَرِ.

قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُوْنَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيْرًا} (الإِسْرَاء:88).

4) أَنَّ الكَلَامَ لَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَّا لِمَنْ قَالَهُ ابْتِدَاءً.

5) أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ العَزِيْزِ بَيْنَ القُرْآنِ وَالخَلْقِ، فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الأِنْسَانَ} (الرَّحْمَن:3) فَخَصَّ القُرْآنَ بِالتَّعْلِيْمِ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ، وَخَصَّ الإِنْسَانِ بِالتَّخْلِيْقِ لِأَنَّهُ خَلْقُهُ ومَصْنُوعُهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: خَلَقَ القُرْآنَ وَالإِنْسَانَ.

- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) إِنَّ العَرَبَ فِي كَلَامِهَا تَسْتَخْدِمُ لَفْظَ القَوْلِ لِغَيْرِ الكَلَامِ كَمَا يَقُوْلُ الرَّجُلُ بِيَدِهِ هَكَذَا (أَيْ: إِشَارَةً عَلَى صِفَةِ مَا)، وَكَمَا يُقَالُ: قَالَتِ السَّمَاءُ هَكَذَا (لِوَصْفِ نُزُوْلِ المَطَرِ)، أَوْ قَوْلِهِم: قُلْتُ فِي نَفْسِيْ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيْهِ حَقِيْقَةُ الكَلَامِ؟!

وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مَعْرُوْفٌ فِي لُغَةِ العَرَبِ وَلَكِنْ لَا يَأْتِي عَلَى سَبِيْلِ الإِطْلَاقِ بَلْ مُقَيَّدًا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِ (هَكَذَا)، أَوْ قَوْلِ الصَّخْرةِ (طِق) مَثَلًا، فَلَا يَجُوْزُ صَرْفُ النَّصِّ عَنْ ظَاهِرِهِ دُوْنَ قَرِيْنَةٍ. بَلْ إِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ بَعْضُ النُّصُوْصِ عَلَى حَقِيْقَةِ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى بِلَفْظِ المَفْعُوْلِ المُطْلَقِ الَّذِيْ يَنْفِي المَجَازَ. (?)

وَأَمَّا حَدِيْثُ النَّفْسِ فَلَا يُسَمَّى كَلَامًا إِلَّا بِقَيْدِ النَّفْسِ، أَمَّا إِذَا أُطْلِقَ فَلَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الكَلَامِ المَسْمُوعِ. (?)

قَالَ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (?) فِي رسالَتِهِ (الرَّدُّ عَلَى مَنْ أنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوْتَ) (?): (لَمَّا وَجَدْنَا أَحْكَامَ الشَّرِيْعَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالكَلَامِ مَنُوْطَةً بِالنُّطْقِ الَّذِيْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ دُوْنَ مَا فِي النَّفْسِ؛ عَلِمْنَا أَنَّ حَقِيْقَةَ الكَلَامِ هُوَ الحَرْفُ وَالصَّوْتُ، فَلَوْ حَلَفَ امْرُؤٌ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ؛ فَأَقَامَ فِي تِلْكَ السَّاعةِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِأَشْيَاءَ وَلَا يَنْطِقُ بِهَا، كَانَ بَارًّا غَيْرَ حَانِثٍ).

- الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) إِنَّ إِثْبَاتَ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى هُوَ تَشْبِيْهٌ لَهُ تَعَالَى بِخَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الكَلَامَ يَحْتَاجُ لِآلَاتٍ؛ وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهَا!

وَالجَوَابُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الكَلَامَ لِنَفْسِهِ، وَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ المُمَاثَلَةَ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الشُّوْرَى:11). وَمِنْ نَفْسِ البَابِ يُقَالُ: السَّمْعُ وَالبَصَرُ لِلمَخْلُوْقِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِآلَةٍ فَهَلْ نَنْفِي عَنِ اللهِ تَعَالَى صِفَاتِهِ لِمُجَرَّدِ اشْتِرَاكِ الوَصْفِ!

وَأَمَّا دَعُوَى أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ آلَالَاتٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ مَقَالَاتُ الفَلَاسِفَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ السَّلَفِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا القَبِيْلِ.

عَنْ نُوْحٍ الجَامِع، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي حَنِيْفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: مَا تَقُوْلُ فِيْمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الكَلَامِ فِي الأَعْرَاضِ وَالأَجْسَامِ؛ فَقَالَ: (مَقَالَاتُ الفَلَاسِفَةِ، عَلَيْكَ بِالأَثَرِ وَطَرِيْقَةِ السَّلَفِ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ). (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015