الفصل الثاني: طرق معرفة العلة.

لما كانت العلة سبباً خفياً غامضاً كان لا بد من وجود طرق ترشد إلى وجودها، ووسائل تعين على الوقوف عليها، ومن خلال كلام العلماء في هذا العلم وممارستي له تبين لي أنه لا بد من عدة خطوات حتى يمكن معرفة سلامة الحديث من العلة أو وجودها فيه.

وإليك هذه الخطوات:

أولاً: جمع طرق الحديث:

وقد كان المحدثون يهتمون بذلك ويؤكدون عليه:

قال أحمد: (الحديث إذا لم تُجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً) .

وقال علي بن المديني: (الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبين خطؤه) .

وقال عبد الله بن المبارك: (إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض) .

ولهذا قال يحيى بن معين: (اكتب الحديث خمسين مرة، فإن له آفات كثيرة) .

وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه) .

وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من مائة وجه ما وقعنا على الصواب) .

وقال أبوحاتم الرازي: (لو لم يُكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه) .

وكان بعض الحفاظ يقول: (إن لم يكن الحديث عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم) .

وللمحدثين في ذلك الأخبار الكثيرة، ومن ذلك:

قال ابن حبان: (سمعت محمد بن إبراهيم بن أبي شيخ الملطي يقول: جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة، فقال له: سمعتها من أحد؟ قال: نعم، حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد بن سلمة، فقال: والله لا حدثتك. فقال: إنما هو درهم وانحدر إلى البصرة وأسمع من التبوذكي، فقال: شأنك. فانحدر إلى البصرة وجاء إلى موسى بن إسماعيل، فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب من أحد؟! قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفساً وأنت الثامن عشر! . فقال: وماذا تصنع بهذا؟ فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم بخلافه، علمت أن الخطأ منه لا من حماد، فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه) .

ثانياً: الموازنة بين الطرق:

وفي هذه الخطوة يتم المقارنة بين طرق الحديث بعد جمعها، فإن اتفقت الطرق ولم يوجد بينها اختلاف علمنا حينئذ سلامة الحديث من العلة.

قال ابن حجر: (السبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف (أي ابن الصلاح) عن الخطيب: أن يُجمع طرقه، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته، وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف) .

قلت: وإن وجد اختلاف بين هذه الطرق (كالاختلاف بين الوصل والإرسال والوقف والرفع ونحوه) فلابد حينئذ من تحديد الراوي الذي اختلف عليه ومعرفة الأوجه التي رويت عنه، ثم يكون الترجيح بين هذه الطرق بقرائن كثيرة لا يمكن حصرها.

قال العلائي: (ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن، الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده، والله أعلم) .

وقال ابن الصلاح: (ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه) .

وهناك أحاديث ليس فيها اختلاف في طرقها، وإنما تدرك علتها بأمور أخرى:

قال ابن رجب: (حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك. وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى أهله، إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015