قَرِينَةَ هَذِهِ الْمَكْنِيَّةِ وَهُوَ فِي ذَاتِهِ اسْتِعَارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 27] .

وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّاف» وَبَينه التفتازانيّ فَيُعَدُّ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ دَقَائِقِ أَنْظَارِهِمَا، وَبِهِ يَتِمُّ تَقْسِيمُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ مُصَرِّحَةٍ وَمَكْنِيَّةٍ. وَذَلِكَ كَانَ مَغْفُولًا عَنْهُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْقَاذَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِلْحَاحِ فِي الْإِنْذَارِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ مَنْ هُوَ صَائِرٌ إِلَى النَّارِ، فَلَا مُتَمَسَّكُ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي غَرَضِ الشَّفَاعَةِ فَإِنَّمَا نَفَتِ الشَّفَاعَةَ لَأَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ يَحْتَمِلُ الْعَهْدَ وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا شَفَاعَةَ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى:

فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] ، عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْقِذًا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ إِنْقَاذِهِ، فَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ أَنْ يُنْقِذَهُ.

وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نُكَتٍ بَدِيعَةٍ مِنَ الْإِعْجَازِ إِذْ أَفَادَتْ أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ يَكْمُنُ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِتَعْذِيبِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ حَالَهُمُ الْآنَ كَحَالِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، وَحَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِهِمْ كَحَالِ مَنْ رَأَى سَاقِطًا فِي النَّارِ فَانْدَفَعَ بِدَافِعِ الشَّفَقَةِ إِلَى مُحَاوَلَةِ إِنْقَاذِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أُنْكِرَتْ شِدَّةُ حِرْصِهِ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ فَكَانَ إِيدَاعُ هَذَا الْمَعْنَى فِي جُمْلَتَيْنِ نِهَايَةً فِي الْإِيجَازِ مَعَ قَرْنِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي مَقَامِ الصَّرَاحَةِ. ثُمَّ بِمَا أُودِعَ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْعَجِيبَةِ بِطَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَمِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ فِي قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ.

وَحَاصِلُ نَظْمِ هَذَا التَّرْكِيبِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي النَّارِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ وَتُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.

وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُمَثَّلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015