وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، قَالَ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] فَإِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ دَلَّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ.

وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ هُنَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِنَّ مِثْلُ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: 95] ، فَلَوْلَا قَصْدُ التَّفْضِيلِ مَا كَانَ لِزِيَادَةِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَجْدٌ وَلَا لِسَبَبِ نُزُولِهَا دَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [95] . فَالْمَعْنَى: أَنْتُنَّ أَفْضَلُ النِّسَاءِ، وَظَاهِرُهُ تَفْضِيلٌ لِجُمْلَتِهِنَّ عَلَى نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُنَّ اتَّصَلْنَ بِالنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام اتِّصَالًا أقرب مِنْ كُلِّ اتِّصَالٍ وَصِرْنَ أنيساته ملازمات شؤونه فَيَخْتَصِصْنَ بِاطِّلَاعِ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ أَحْوَالِهِ وَخُلُقِهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَيَتَخَلَّقْنَ بِخُلُقِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْتَبِسُ مِنْهُ غَيْرُهُنَّ، وَلَأَنَّ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِنَّ إِقْبَالٌ خَاصٌّ، أَلَا تَرَى إِلَى

قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حبّب إِلَيْكُم مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ»

، وَقَالَ تَعَالَى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النُّور: 26] . ثُمَّ إِنَّ نِسَاءَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يتفاضلن بَينهُنَّ.

وَالتَّقْيِيد بِقَوْلِهِ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ لَيْسَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ إلهاب وتحريض على الِازْدِيَادِ مِنَ التَّقْوَى، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى

قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَفْصَةَ: «إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ- يَعْنِي أَخَاهَا- رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يقوم من اللَّيْل»

، فَلَمَّا أَبْلَغَتْ حَفْصَةُ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر لم يَتْرُكْ قِيَامَ اللَّيْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِيَامِ.

وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ إِنْ دُمْتُنَّ عَلَى التَّقْوَى فَإِنَّ نِسَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّقِيَاتٌ مِنْ قَبْلُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ تَفْضِيلُ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَبَيْنَ بَنَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلِاخْتِلَافِ جِهَاتِ أُصُولِ التَّفْضِيلِ الدِّينِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِحَيْثُ يَعْسُرُ ضَبْطُهَا بِضَوَابِطَ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015