نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُظَاهَرَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِالدَّسِّ وَتَلْقِينِ الشُّبَهِ، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْله: فَسْئَلْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ: سُؤَالُ الِاحْتِجَاجِ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَا سُؤَالُ الِاسْتِرْشَادِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ.
وَقَوْلُهُ: مَسْحُوراً ظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَأَثِّرًا بِالسِّحْرِ، أَيْ سَحَرَكَ السَّحَرَةُ وَأَفْسَدُوا عَقْلَكَ فَصِرْتَ تَهْرِفُ بِالْكَلَامِ الْبَاطِلِ الدَّالِّ عَلَى خَلَلِ الْعَقْلِ (مِثْلَ الْمَيْمُونِ وَالْمَشْئُومِ) .
وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ فِرْعَوْنُ فِي مَقَامٍ غَيْرِ الَّذِي قَالَ لَهُ فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشُّعَرَاء: 35] ، وَالَّذِي قَالَ فِيهِ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، [الشُّعَرَاء: 34] فَيَكُونُ إِعْرَاضًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْآيَاتِ وَإِقْبَالًا عَلَى تَطَلُّعِ حَالِ مُوسَى فِيمَا يَقُولُهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء:
25] . وكل تِلْكَ أَقْوَال صَدَرَتْ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي مَقَامَاتِ مُحَاوَرَاتِهِ مَعَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَحُكِيَ فِي كُلِّ آيَةٍ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَ (إِذَا) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَيْنا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي جاءَهُمْ عَائِدٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ إِذْ جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاسْأَلْهُمْ.
وَكَانَ فِرْعَوْنُ تَعَلَّقَ ظَنُّهُ بِحَقِيقَةِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ فَرَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّهَا سِحْرٌ، أَوْ تَعَلَّقَ ظَنُّهُ بِحَقِيقَةِ حَالِ مُوسَى فَرَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَصَابَهُ سِحْرٌ، لِأَنَّ الظَّنَّ دُونَ الْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى:
إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِين.
وَمعنى قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَبْقَ فِي نَفْسِهِ شَكٌّ فِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَكِبْرِيَاءً.