انْتَفَى أَنْ يَفْتِنَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصَرْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ تَنْفِيذِ فِتْنَتِهِمْ.

وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: وَلَوْلَا أَنْ عَصَمْنَاكَ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَأَرَيْنَاكَ أَنَّ مَصْلَحَةَ الشِّدَّةِ فِي الدِّينِ وَالتَّنْوِيهِ بِأَتْبَاعِهِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ ضُعَفَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَا تُعَارِضُهَا مَصْلَحَةُ تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِالْغَضَاضَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمِ اسْتِئْلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ إِظْهَارَ الْهَوَادَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ تُطْمِعُ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّرَقِّي إِلَى سُؤَالِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مَدًى مِمَّا سَأَلُوهُ، فَمَصْلَحَةُ مُلَازَمَةِ مَوْقِفِ الْحَزْمِ مَعَهُمْ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ مُلَايَنَتِهِمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ، أَيْ فَلَا فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا، أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ، أَيْ تَوَعَّدْتَهُمْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى بَعْضِ مَا سَأَلُوكَ اسْتِنَادًا لِدَلِيلِ مَصْلَحَةٍ مَرْجُوحَةٍ وَاضِحَةٍ وَغَفْلَةً عَنْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ خَفِيَّةٍ اغْتِرَارًا بِخِفَّةِ بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ فِي جَانِبِ عِظَمِ مَا وَعَدُوا بِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ.

وَالرُّكُونُ: الْمَيْلُ بِالرُّكْنِ، أَيْ بِالْجَانِبِ مِنَ الْجَسَدِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمُوَافَقَةِ بِعَلَاقَةِ الْقُرْبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ هُودٍ [113] ، كَمَا اسْتُعْمِلَ ضِدُّهُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [83] .

وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ تَرْكَنُ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الرُّكُونِ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ مَصْدَرِ تَرْكَنُ طَلَبُ الْخِفَّةِ لِأَنَّ مَصْدَرَ تَرْكَنُ وَهُوَ الرُّكُونُ فِيهِ ثِقَلٌ فَتَرْكُهُ أَفْصَحُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَلِيلًا لِأَنَّ تَنْكِيرَ شَيْئاً مُفِيدٌ التَّقْلِيلَ، فَكَانَ فِي ذِكْرِهِ تَهْيِئَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى التَّقْلِيلِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) لتوغلها فِي إِبْهَام جِنْسِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ جِنْسِ الْمَوْجُودِ مُطْلَقًا مُفِيدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: 20] .

وَ (إِذَنْ) الثَّانِيَةُ جَزَاءٌ لِ كِدْتَ تَرْكَنُ، وَلِكَوْنِهَا جَزَاءً فُصِلَتْ عَنِ الْعَطْفِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ. فركون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ غَيْرُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015