وَجَعَلَ الثَّنَاءَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُقَدِّمَةً لِذَلِكَ لِبَيَانِ أَنَّ فَضْلَ الْإِسْلَامِ فَضْلٌ زَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِأَنَّ مَبْدَأَهُ بِرَسُولٍ وَمُنْتَهَاهُ بِرَسُولٍ. وَهَذَا فَضْلٌ لَمْ يَحْظَ بِهِ دِينٌ آخَرُ.

فَالْمَقْصُودُ بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ وَهَاتِهِ الْمُقَدِّمَةِ هُوَ الْإِفْضَاءُ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سُورَة النَّحْل: 123] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْحَج: 78] .

وَالْأَصْلُ الْأَصِيلُ الَّذِي تَفَرَّعَ عَنْهُ وَعَنْ فُرُوعِهِ هَذَا الِانْتِقَالُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مِنْ تَحْرِيمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى النَّاسِ.

وَنَظَّرَهُمْ بِالْيَهُودِ إِذْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ، تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ بِهَذَا الِانْتِقَالِ لِإِفَادَةِ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَدْ حَادُوا عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُوهَا، وَأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ مَا

جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنْ إِبَاحَةِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، إِلَّا مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ فِي آيَةِ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [سُورَة الْأَنْعَام: 145] الْآيَةَ.

وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ كَانَ أُمَّةً. وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَجْمَعُهَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] . وَوَصْفَ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذَلِكَ وصف بديع جَامع لِمَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ فِي الْفَضْلِ وَالْفُتُوَّةِ وَالْكَمَالِ بِمَنْزِلَةِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ الرَّجُلُ كل الرجل، وَقَول الْبُحْتُرِيُّ:

وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا ... لَدَى الْفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مُعَاذٌ أُمَّةٌ قَانِتٌ لِلَّهِ» .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015