وَ (مِنْ) كُلِّ مَكانٍ بِمَعْنَى مِنْ أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ. وكُلِّ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] .

وَالْأَنْعُمِ: جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.

وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ: الْكُفْرُ بِالْمُنْعِمِ، لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوا الْمُنْعِمَ الْحَقَّ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 83] .

وَاقْتِرَانُ فِعْلِ «كَفَرَتْ» بِفَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْكُفْرِ عَقِبَ النِّعَمِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا حِينَ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ عِنْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ.

وَأَمَّا قَرْنُ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَهُوَ تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ

الْمُعَقَّبِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَالرَّسُولُ يُكَرِّرُ الدَّعْوَةَ وَإِنْذَارُهُمْ بِهِ، فَلَمَّا حَصَلَ عَقِبَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ غَيْرِ طَوِيلَةٍ وَكَانَ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ جُعِلَ كَالشَّيْءِ الْمُعَقَّبِ بِهِ كُفْرَهُمْ.

وَالْإِذَاقَةُ: حَقِيقَتُهَا إِحْسَاسُ اللِّسَانِ بِأَحْوَالِ الطُّعُومِ. وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى إِحْسَاسِ الْأَلَمِ وَالْأَذَى إِحْسَاسًا مَكِينًا كَتَمَكُّنِ ذَوْقِ الطَّعَامِ مِنْ فَمِ ذَائِقِهِ لَا يَجِدُ لَهُ مِدْفَعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] .

وَاللِّبَاسُ: حَقِيقَتُهُ الشَّيْءُ الَّذِي يُلْبَسُ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجُوعِ وَالْخَوْفِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ إِلَى مَا يُغْشَى مِنْ حَالَةِ إِنْسَانٍ مُلَازِمَةٍ لَهُ كَمُلَازَمَةِ اللِّبَاسِ لَابِسَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [سُورَة الْبَقَرَة: 187] بِجَامِعِ الْإِحَاطَةِ وَالْمُلَازَمَةِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015