نُونِ التَّوْكِيدِ كَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ: إِمَّا تُكْرِمْنِي بِدُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ وَلَكِنْ تَقُولُ: إِنْ تُكْرِمْنِي. وَشَذَّ قَوْلُ الْأَعْشَى:

فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا

ثُمَّ أَكَّدَ التَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ تَأْكِيدًا ثَانِيًا بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ للاهتمام. وَجُمْلَة: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ اسْمِيَّةٌ تُفِيدُ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ، أَيْ ذَلِكَ أَمْرٌ فِي تَصَرُّفِنَا دَوْمًا.

وَجُمْلَةُ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ.

وَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ (ثُمَّ) فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. وَالتَّرَاخِي الرُّتْبِيُّ كَوْنُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ جُمْلَةَ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّعْرِيضِ بِالْجَزَاءِ عَلَى سُوءِ أَفْعَالِهِمْ كَانَتْ أَهَمَّ مَرْتَبَةً فِي الْغَرَضِ وَهُوَ غَرَضُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى اللَّهِ مُجْمَلٌ وَاطِّلَاعُهُ عَلَى أَفْعَالِهِمُ الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِهَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِلْوَعِيدِ الْمُجْمَلِ، وَالتَّفْصِيلُ أَهَمُّ مِنَ الْإِجْمَالِ. وَقَدْ حَصَلَ بِالْإِجْمَالِ ثُمَّ بِتَفْصِيلِهِ تَمَامُ تَقْرِيرِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَتَأْكِيدُ الْوَعِيدِ. وَأَمَّا كَوْنُ عَذَابِ الْآخِرَةِ حَاصِلًا بَعْدَ إِرْجَاعِهِمْ إِلَى اللَّهِ بِمُهْلَةٍ جُمِعَ مَا فِيهِ مِنْ تَكَلُّفِ تَقَرُّرِ تِلْكَ الْمُهْلَةِ هُوَ بِحَيْثُ لَا يُنَاسِبُ حَمْلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عَلَى التَّصَدِّي لِذِكْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، إِذْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَعِيدِ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا.

وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَحَقِيقَتُهُ: الْمُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ فِيهِ تَصْدِيقٌ لِلْمُخْبِرِ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْعَالِمِ عِلْمَ تَحْقِيقٍ.

وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَفْعَلُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، فَأَمَّا مَا مَضَى فَهُوَ بِعِلْمِهِ أَجْدَر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015