الظُّرُوفُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ نَصَرَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهِيَ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ وَالتَّفْرِيعِ، وَجَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا السَّبْكِ الْبَدِيعِ لِلْمُبَادَأَةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ حَصَلَ فِي أَزْمَانٍ وَأَحْوَالٍ مَا كَانَ النَّصْرُ لِيَحْصُلَ فِي أَمْثَالِهَا لِغَيْرِهِ لَوْلَا عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِ، وَأَنَّ نَصْرَهُ كَانَ مُعْجِزَةً خَارِقًا لِلْعَادَةِ.

وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَنْدَفِعُ الْحَيْرَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، حَتَّى أَغْرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَأَرْجَعَ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي أَيَّدَهُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَشَأَ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ، وَانْفِكَاكُ الْأُسْلُوبِ بِذِكْرِ حَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ لِذِكْرِ ثَبَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَمَا جَاءَ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا تَبَعًا لِذِكْرِ ثبات النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَتِلْكَ الْحَيْرَةُ نَشَأَتْ عَنْ جَعْلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مُفَرَّعًا عَلَى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ:

وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها إِنَّهَا جُنُودُ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ وُقُوفٌ مَعَ ظَاهِرِ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ أُسْلُوبِ النَّظْمِ الْمُقْتَضِي تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا.

وَالسَّكِينَةُ: اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الْمَخُوفَةِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ

ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [248] .

وَالتَّأْيِيدُ: التَّقْوِيَةُ وَالنَّصْرُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْيَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] .

وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ بِمَعْنَى الْجَيْشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

ثُمَّ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عَطْفَ تَفْسِيرٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجُنُودِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ أَلْقَوُا الْحَيْرَةَ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ فَصَرَفُوهُمْ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْبَحْثِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِكْثَارِ الطّلب وَرَاءه والترصّد لَهُ فِي الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ وَالسُّبُلِ الْمُوَصِّلَةِ، لَا سِيَّمَا وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَصَدَ يَثْرِبَ مُهَاجَرَ أَصْحَابِهِ، وَمَدِينَةَ أَنْصَارِهِ، فَكَانَ سَهْلًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْصُدُوا لَهُ طُرُقَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015