فَلَمَّا آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَلَبَتِ الْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمْ مَوَدَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: 103] ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّآلُفُ وَالتَّحَابُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَبْلُ بِوَشَائِجِ الْأَنْسَابِ، وَلَا بِدَعَوَاتِ ذَوِي الْأَلْبَابِ.

وَلِذَلِكَ اسْتَأْنَفَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قَوْلَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ اسْتِئْنَافًا نَاشِئًا عَنْ مَسَاقِ الِامْتِنَانِ بِهَذَا الِائْتِلَافِ، فَهُوَ بَيَانِيٌّ، أَيْ: لَوْ حَاوَلْتَ تَأْلِيفَهُمْ بِبَذْلِ الْمَالِ الْعَظِيمِ مَا حَصَلَ التَّآلُفُ بَيْنَهُمْ.

فَقَوْلُهُ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مُبَالَغَةٌ حَسَنَةٌ لِوُقُوعِهَا مَعَ حَرْفِ (لَوِ) الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ. وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ فَلَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، فَكَانَ التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمْ مِنْ آيَاتِ هَذَا الدِّينِ، لِمَا نَظَّمَ اللَّهُ مَنْ أُلْفَتِهِمْ، وَأَمَاطَ عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَشَاهِدِ ذَلِكَ مَا حَدَثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الْإِحَنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِمَّا نَشَأَتْ عَنْهُ حَرْبُ بُعَاثٍ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحُوا بَعْدَ حِينٍ إِخْوَانًا أَنْصَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَزَالَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الْبَغْضَاءَ بَينهم.

وجَمِيعاً مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُجْتَمِعٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ فِي سُورَةِ هُودٍ [55] .

وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَعَذُّرِ التَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أَيْ وَلَكِنَّ تَكْوِينَ اللَّهِ يَلِينُ بِهِ الصَّلْبُ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمُتَعَذِّرُ.

وَالْخِطَابُ فِي أَنْفَقْتَ وأَلَّفْتَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.

وَإِذْ كَانَ هَذَا التَّكْوِينُ صُنْعًا عَجِيبًا ذَيَّلَ اللَّهُ الْخَبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ قَوِيُّ الْقُدْرَةِ فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، مُحْكِمُ التَّكْوِينِ فَهُوَ يُكَوِّنُ الْمُتَعَذِّرَ، وَيَجْعَلُهُ كَالْأَمْرِ الْمَسْنُونِ الْمَأْلُوفِ.

وَالتَّأْكِيدُ بِ «إِنَّ» لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ دَلِيلًا عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015