وَيُدْفَعُ بِهِ الضُّرُّ الْأَبَدِيُّ، لِأَنَّ آلَاتِ الْإِدْرَاكِ وَالْعِلْمِ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي جَلْبِ أَفْضَلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ أَكْبَرِ الْمَضَارِّ، نُفِيَ عَنْهُمْ عَمَلُهَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمُّ، مِثْلَ النَّكِرَةِ، فَهَذَا عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ غَيْرِ هَذَا، فَالنَّفْيُ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ بَعْضِ الْمَوْجُودِ بِالْمَعْدُومِ كُلِّهِ.

وَلَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْأَعْيُنِ عَلَى الْآذَانِ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ مِنْ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ لتشريف السّمع يتلَقَّى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: 7] لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ هَذِهِ سَلَكَ طَرِيقَ التَّرَقِّي مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ الْمُدْرَكَاتِ إِلَى آلَاتِ الْإِدْرَاكِ الْأَعْيُنِ ثُمَّ الْآذَانِ فَلِلْآذَانِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فِي الِارْتِقَاءِ.

وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ كَلَامٍ بِتَفْظِيعِ حَالِهِمْ فَجُعِلَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلسَّامِعِينَ. وَعُرِّفُوا بِالْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ بِسَبَبِهَا أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ تْسَوِيَتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ أَوْ جَعْلِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَتَشْبِيهِهِمْ بِالْأَنْعَامِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعُقَلَاءُ فَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ وَأَعْيُنَهُمْ وَآذَانَهُمْ، قُلُوبُ الْأَنْعَامِ وَأَعْيُنُهَا وَآذَانُهَا، فِي أَنَّهَا لَا تَقِيسُ الْأَشْيَاءَ عَلَى أَمْثَالِهَا، وَلَا تنْتَفع بِبَعْض للدلائل الْعَقْلِيَّةِ فَلَا تَعْرِفُ كَثِيرًا مِمَّا يُفْضِي بِهَا إِلَى سُوءِ الْعَاقِبَةِ.

وَ (بَلْ) فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِلِانْتِقَالِ وَالتَّرَقِّي فِي التَّشْبِيهِ فِي الضَّلَالِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الشَّبَهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْله: كَالْأَنْعامِ يؤول إِلَى مَعْنَى الضَّلَالِ، كَانَ الِارْتِقَاءُ فِي التَّشْبِيهِ بِطَرِيقَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ فِي الضَّلَالِ.

وَوَجْهُ كَوْنِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ: أَنَّ الْأَنْعَامَ لَا يَبْلُغُ بِهَا ضَلَالُهَا إِلَى إِيقَاعِهَا فِي مُهَاوِي الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ، لِأَنَّ لَهَا إِلْهَامًا تَتَفَصَّى بِهِ عَنِ الْمَهَالِكِ كَالتَّرَدِّي مِنَ الْجِبَالِ وَالسُّقُوطِ فِي الْهُوَّاتِ، هَذَا إِذَا حُمِلَ التَّفْضِيلُ فِي الضَّلَالِ عَلَى التَّفْضِيلِ فِي جِنْسِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى التَّفْضِيلِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّلَالِ وَمُقَارَنَاتِهِ كَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الْأَنْعَامَ قَدْ خُلِقَ إِدْرَاكُهَا مَحْدُودًا لَا يَتَجَاوَزُ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَنُقْصَانُ انْتِفَاعِهَا بِمَشَاعِرِهَا لَيْسَ عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْهَا، فَلَا تَكُونُ بِمَحِلِّ الْمَلَامَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الضَّلَالَة فَإِنَّهُم حجروا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُدْرَكَاتِهِمْ، بِتَقْصِيرٍ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضٍ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015