مَبْثُوثٌ أَثَرُهُ، فَهُوَ تَكَبُّرٌ شَائِعٌ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُس: 23] وَقَوْلِهِ: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْبَقَرَة: 27] وَقَوْلِهِ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الْإِسْرَاء: 37] وَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:

فَهَلَّا أَعْدَوْنِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ... وَفِي الْأَرْضِ مَبْثُوثٌ شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ

وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةٌ لِتَشْنِيعِ التَّكَبُّرِ بِذِكْرِ مَا هُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ، وَهُوَ مُغَايَرَةُ الْحَقِّ، أَيْ: بَاطِلٌ وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ لِلتَّكَبُّرِ، كَاشِفَةٌ لِوَصْفِهِ، إِذِ التَّكَبُّرُ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ فِي جَانِبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ لِلَّهِ بِحَقٍّ لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ، وَلَيْسَ تَكَبُّرُ اللَّهِ بِمَقْصُودٍ أَنْ يُحْتَرَزَ عَنْهُ هُنَا حَتَّى يُجْعَلَ الْقَيْدُ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ، كَمَا فِي

«الْكَشَّافِ» .

وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَاوَلَ جَعْلَ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ الْحَقِّ قَيْدًا لِلتَّكَبُّرِ، وَجَعَلَ مِنَ التَّكَبُّرِ مَا هُوَ حَقٌّ، لِأَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى الْمُبْطِلِ، وَمِنْهُ الْمَقَالَةُ الْمَشْهُورَةُ «الْكِبْرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ» وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهَا جَرَتْ عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْغَلَطِ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: يَتَكَبَّرُونَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [96، 97] وَكُلُّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [145] .

وَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِوَسِيلَةِ الشَّيْءِ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الرُّشْدِ وَإِلَى الْغَيِّ. وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِدْرَاكِ.

وَالِاتِّخَاذُ حَقِيقَتُهُ مُطَاوِعُ أَخَّذَهُ بِالتَّشْدِيدِ، إِذَا جَعَلَهُ آخِذًا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَخْذِ الشَّيْءِ وَلَوْ لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازَمَةِ، أَيْ لَا يُلَازِمُونَ طَرِيقَ الرُّشْدِ، وَيُلَازِمُونَ طَرِيقَ الْغَيِّ.

وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ وَفِعْلُ النَّافِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الشَّيْءُ الصَّالِحُ كُلُّهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَالْغَيُّ الْفَسَادُ وَالضَّلَالُ، وَهُوَ ضِدُّ الرُّشْدِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ السَّفَهَ ضِدُّ الرُّشْدِ بِمَعْنَى حُسْنِ النَّظَرِ فِي الْمَالِ، فَالْمَعْنَى: إِنْ يُدْرِكُوا الشَّيْءَ الصَّالِحَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015