التَّقْدِيرُ: لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا كَلَّمَهُ رَبُّهُ، فَيَكُونُ إِيجَازًا بِحَذْفِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْنَى إِنْشَاءِ التَّكْلِيمِ الطَّمَعُ فِي الرُّؤْيَةِ إِلَّا مِنْ لَازِمِ الْمُوَاعَدَةِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمِيقاتِنا صِنْفٌ مِنْ لَامِ الِاخْتِصَاصِ، كَمَا سَمَّاهَا فِي «الْكَشَّافِ» وَمَثَّلَهَا بِقَوْلِهِمْ: أَتَيْتُهُ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ، يَعْنِي أَنَّهُ اخْتِصَاصُ مَا، وَجَعَلَهَا ابْنُ هِشَامٍ بِمَعْنَى عِنْدَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى مَجِيئًا خَاصًّا بِالْمِيقَاتِ أَيْ: حَاصِلًا عِنْدَهُ لَا تَأْخِيرَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78]

وَفِي الْحَدِيثِ سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ فَقَالَ: «الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا»

أَيْ عِنْدَ وَقْتِهَا وَمِنْهُ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] .

وَيَجُوزُ جَعْلُ اللَّامِ لِلْأَجْلِ وَالْعِلَّةِ، أَيْ جَاءَ لِأَجْلِ مِيقَاتِنَا، وَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَضَمُّنِ الْمِيقَاتِ مَعْنَى الْمُلَاقَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ، أَيْ جَاءَ لِأَجْلِ مُنَاجَاتِنَا.

وَالْمَجِيءُ: انْتِقَالُهُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ إِلَى جَبَلِ سِينَا الْمُعَيَّنِ فِيهِ مَكَانُ الْمُنَاجَاةِ.

وَالتَّكْلِيمُ حَقِيقَتُهُ النُّطْقُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُفِيدَةِ مَعَانِي بِحَسَبِ وَضْعٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مِنْ أَعْرَاضِ الْحَوَادِثِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ التَّكْلِيمِ

إِلَى اللَّهِ مَجَازًا مُسْتَعْمَلًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَلْفَاظٍ مِنْ لُغَةِ الْمُخَاطَبِ بِهِ بِكَيْفِيَّةٍ يُوقِنُ الْمُخَاطَبُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ وَوَفْقِ الْعِلْمِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْكَلَامَ فِي شَيْءٍ حَادِثِ سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَ مُوسَى حَذْوَهَا، وَذَلِكَ أَوَّلُ كَلَامٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ مُوسَى فِي أَرْضِ مَدْيَنَ فِي جَبَلِ (حُورِيبَ) ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْكَلَامَ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ وَذَلِكَ الْكَلَامُ الْوَاقِعُ فِي طُورِ سِينَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ 19 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ.

وَالْكَلَامُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ كَانَ يَسْمَعُهُ مُوسَى حِينَ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ فِي الْمُنَاجَاةِ أَوْ نَحْوِهَا، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يُكَلِّمُ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الشُّورَى [51] ، وَهُوَ حَادِثٌ لَا مَحَالَةَ وَنِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ أَنَّهُ صَادِرٌ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَنْ يُخَالِفَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015