مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَفَّ عَنِ السُّجُودِ لَا عَنْ نَفْيِ السُّجُودِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:

مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، فَلِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ (لَا) هُنَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، فَقِيلَ هِيَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا تُفِيدُ نَفْيًا، لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمَزِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ التَّأْكِيدِ. وَ (لَا) مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُؤَكَّدُ بِهَا الْكَلَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 1]- وَقَوْلِهِ- لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 29] أَيْ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ عِلْمًا مُحَقَّقًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 95] أَيْ مَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَنْعًا مُحَقَّقًا، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي تَوْجِيهِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ إِلَى الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِ السُّجُودِ غَيْرَ وَاقِعٍ فَلَا يَنْبَغِي تَأْكِيدُهُ خَفَاءً لِأَنَّ التَّوْكِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.

وَقِيلَ (لَا) نَافِيَةٌ، وَوُجُودُهَا يُؤْذِنُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَنَعَكَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ شَيْءٍ يَدْعُو لِضِدِّهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فَدَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَكَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى دَعَاكَ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَ (لَا) هِيَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ السَّكَّاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي فَصْلِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ فِيمَا نَقَلَهُ

الْفَخْرُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ الْفِعْلَانِ، فَذُكِرَ أَحَدُهُمَا وَحُذِفَ الْآخَرُ، وَأُشِيرَ إِلَى الْمَحْذُوفِ بِمُتَعَلِّقَةِ الصَّالِحِ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ.

وَانْظُرْ مَا قُلْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فِي سُورَةِ طه [92، 93] .

وَقَوْلُهُ: إِذْ أَمَرْتُكَ ظَرْفٌ لِ تَسْجُدَ، وَتَعْلِيقُ ضَمِيرِهِ بِالْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ أَمْرَ الْمَلَائِكَةِ شَامِلٌ لَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَخَلَقَ اللَّهُ إِبْلِيسَ أَصْلًا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015