الْحَشْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ لِيَحْرِمَهُمْ مُوجِبَاتِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ.

وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ جَرَيَانَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَانَ نَتِيجَةَ تَفَكُّرِهِمْ فِي ظُلْمِهِمْ فِي مُدَّةِ سَلَامَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْعِنَادَ وَالْكِبْرِيَاءَ يَصُدَّانِهِمْ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ مَنْ تُصِيبُهُ شِدَّةٌ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامٌ، فَمَنِ اعْتَادَ قَوْلَ الْخَيْرِ نَطَقَ بِهِ، وَمَنِ اعْتَادَ ضِدَّهُ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلَامُ التَّسَخُّطِ وَمُنْكَرُ الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِمْ مَا كَثُرَ جَوَلَانُهُ فِي أَفْكَارِهِمْ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: كُنَّا ظالِمِينَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعِنَادِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ، وَصَمِّ الْآذَانِ عَنِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْظِ، وَذَلِكَ يَجْمَعُهُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، وَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:

وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الْأَعْرَاف: 3] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ وَإِلْهَامِهِمْ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالظَّالِمِينَ، أَوْ بِوِجْدَانِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِقْرَارًا مَحْضًا أَقَرُّوا بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصِيغَةُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِنْشَاءِ الْإِقْرَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَكَانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ وَمُكَابِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ نَدِمُوا

وَأَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ، إِقْرَارًا مَشُوبًا بِحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ الصَّرِيحِ وَمَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ يَجْتَمِعُ مَعَ الْكِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَجَازًا صَرِيحًا.

وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُونَهُ لِغَيْرِ مُخَاطَبٍ مُعَيِّنٍ، كَشَأْنِ الْكَلَامِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، مِثْلَ الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، بَيْنَهُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015