فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ يَتَطَلَّبُ مُصَادَفَةَ الصَّوَابِ بِاجْتِهَادِهِ، بِتَتَبُّعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَزَالُ يَبْحَثُ عَنْ مُعَارِضِ اجْتِهَادِهِ وَإِذَا اسْتَبَانَ لَهُ الْخَطَأُ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَيْسَ فِي طَاعَتِهِ ضَلَالٌ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ طُرُقَ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ فِي التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.

وَقَوْلُهُ: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ مَنْ يَقْبَلُ قَوْلَهُ، بِحَالِ مَنْ يُضِلُّ مُسْتَهْدِيهِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَيَنْعَتُ لَهُ طَرِيقًا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ التَّشْبِيهِ: بِأَنْ يُشَبِّهَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَإِضَافَةُ السَّبِيلِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ قَرِينَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ أَدِلَّةُ الْحَقِّ، أَوْ هُوَ الْحَقُّ نَفْسُهُ.

ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سَبَبَ ضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ: بِأَنَّهُمْ مَا يَعْتَقِدُونَ وَيَدِينُونَ إِلَّا عَقَائِدَ ضَالَّةً،

وَأَدْيَانًا سَخِيفَةً، ظَنُّوهَا حَقًّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْرِغُوا مَقْدِرَةَ عُقُولِهِمْ فِي تَرَسُّمِ أَدِلَّةِ الْحَقِّ فَقَالَ:

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.

وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ فِي قَبُولِ الْفِكْرِ لِمَا يُقَالُ وَمَا يَخْطُرُ لِلْفِكْرِ: مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَدِلَّةِ وَتَقَلُّدِ ذَلِكَ. فَهَذَا أَتَمُّ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ يُطْلَقُ عَلَى عَمَلِ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ كَأَنَّهُ يَتَّبِعُهُ.

وَالظَّنُّ، فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، هُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُخْطِئُ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، الَّذِي يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ حَقًّا وَصَحِيحًا، قَالَ تَعَالَى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يُونُس: 36] وَمِنْه

قَول النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»

وَلَيْسَ هُوَ الظَّنُّ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ فُقَهَاؤُنَا فِي الْأُمُورِ التَّشْرِيعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْعِلْمَ الرَّاجِحَ فِي النَّظَرِ، مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا، لِتَعَسُّرِ الْيَقِيِنِ فِي الْأَدِلَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ فِيهَا: إِنْ كَانَ الْيَقِينَ الْمُرَادَ لِلْحُكَمَاءِ، فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ أَوِ الْبُرْهَانِ، وَهُمَا لَا يَجْرِيَانِ إِلَّا فِي أُصُولِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015