ولا سفرًا من أسفار التفسير، فحالُ هذا كحال من حصل الكاغد والحبر، وبرى أقلامه، ولاك دواته، ولم يكتب حرفًا، فلم يفعل المقصود؛ إذ لا ريب أن المقصود من هذه الآلات هو الكتابة. كذلك حالُ من قبله، ومن عرف ما ذكرناه سابقًا، لم يحتج إلى قراءة كتب التفسير على الشيوخ؛ لأنه قد حصل ما يفهم به الكتاب العزيز، وإذا أشكل عليه شيء من مفردات القرآن، رجع إلى ما قدمنا أنه يكفيه من علم اللغة، وإذا أشكل عليه إعراب، فعنده من علم النحو ما يكفيه، وكذلك إذا كان الإشكال يرجع إلى علم الصرف، وإذا وجد اختلافًا في تفاسير السلف التي يقف عليها مطالعته، فالقرآن عربي والمرجع لغة العرب، فما كان أقرب إليها، فهو أحقُّ مما كان أبعدَ، وما كان من تفاسير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو - مع كونه شيئًا يسيرًا - موجود في كتب السنة.

ثم هذا المقدار الذي قدمنا يكفي في معرفة معاني متون الحديث، وأما ما يكفيه في معرفة كون الحديث صحيحًا أو غير صحيح، فقد قدمنا الإشارة إلى ذلك، ونزيده إيضاحًا، فنقول: إذا قال إمامٌ من أئمة الحديث المشهورين بالحفظ، والعدالة، وحسن المعرفة، والضبط: إنه لم يذكر في كتابه إلا ما كان صحيحًا، وكان ممن مارس هذا الشأن ممارسة كلية؛ كصاحبي "الصحيحين"، وبعدهما "صحيح ابن حبان"، و"صحيح ابن خزيمة"، ونحوهما، فهذا القول مسوغ للعمل بما وجد في تلك الكتب، وموجب لتقديمه على التقليد، وليس هذا من التقليد؛ لأنه عملٌ برواية الثقة، والتقليد: عملٌ برأيه، وهذا الفرق أوضحُ من الشمس، وإن التبس على كثير من الناس، وأما ما يدندن حوله أربابُ علم المعاني والبيان من اشتراط ذلك، وعدم الوقوف على حقيقة معاني الكتاب والسنة بدونه.

فأقول: ليس الأمر كما قالوا؛ لأن ما تمس الحاجة إليه في معرفة الأحكام الشرعية قد أغنى عنه ما قدمنا ذكرَه من اللغة والنحو والصرف والأصول، والزائدُ عليه - وإن كان من دقائق العربية وأسرارها، ومما له مزيد التأثير في معرفة بلاغة الكتاب العزيز - لكن ذلك أمرٌ وراءَ ما نحن بصدده، وربما يقول قائل: بأن هذه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015