البواكير (صفحة 308)

فضممت عليّ ثيابي وأصلحت من هندامي ونزلت إلى السوق، وكان ذلك في باريس، بلد الرقة والجمال والعلم والحرية ... وأشياء أخرى يضيفونها إليها لم أحفظها، لأن لذع النار علّمني ألا أقف وراء الستار وأن أنفذ الى الصميم، فلما فعلت علمت أن وراء هذه الرقة طوفاناً من الفساد الأخلاقي، ووراء هذه الحرية إباحية لا حد لها واختلاطاً في الأنساب واستهتاراً بالأعراض ونشراً للأمراض، وأن وراء هذا العلم كثيراً من الكفر وكثيراً من الظن وكثيراً من الدسائس، وأن وراء هذا الجمال الجسمي أقبح القبح النفسي.

وكان أول من عرفته في باريس طالباً سورياً يدرس فيها وله على الحكومة راتب، فدفعوني إليه من راتبه، وأوصوه أن يحتفظ بي ويحسن صحبتي وأن يبتعد بي عن مواطن الريبة وأماكن الفجور، وأفهموه أنني من أصل وضيع ولكني شريفة، لا أعرف إلا جوّ الغاب الراقي الصادق وجو المعمل الجاد العامل، وأن الظروف اضطرتني إلى التدني من ذلك الجو إلى جو باريس ... فوعدهم خيراً.

وقلت: الحمد لله، فقد كُتبت لي السعادة إذ صرت صديقة طالب هجر بلاده وترك أهله ليطلب العلم الصحيح ثم يرجع به إلى بلده فيحمي به أمته ويوقظ به قومه وينير لهم طريق المجد والعلاء، وقد كُتب لي أن أدخل هذه الجامعة التي يمدحونها ويعتزون بها وأسمع هذه المحاضرات القيّمة، وأمد رأسي من جيب صاحبي فأرى هؤلاء العلماء الأجلاء الذين سمعت الحديث عنهم في المعمل.

وأغمضت عيني لأنام تلك الليلة، ولكني لم أكد أغفو حتى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015