البواكير (صفحة 266)

وكثيرون ممّن أعرف لا يتورعون عن أن يعبثوا بالأمانة قد ائتُمنوا عليها ويسرقوا منها. ولست أعني بالأمانة صِرافة المال وحدها، بل إنني أَعُدّ من الأمانة متاع الدكان في يد الأجير، ومال الحكومة في يد الجابي، وحرمة القانون في يد الشرطي، وحق العدل في يد القاضي؛ فإذا انتفع الأجير بمتاع الدكان بالعارِيّة أو بالسرقة، أو زاد الجابي على الضريبة قرشاً له أو عَلَفاً لدابته يَتَغَفَّل عليها المكلف الجاهل، أو أغضى الشرطي على مخالفة من أجل صداقة أو لذة أو منفعة أو رهبة، أو مال القاضي لأحد الخصمين لمثل تلك الأسباب، فقد خان الأمانةَ وكان لصاً خائناً.

وكثيرون ممّن أعرف لا يجدون في الكذب والنفاق سُبَّة ولا عاراً؛ أكون معهم في نقد رجل فيفيضون في النقد والشتم ما دار في فمهم لسان، ولا يَدَعون كلمة سوء إلا أودعوه إياها، فإذا لقوه مدحوه وتزلفوا وبشّوا في وجهه وزعموا أنهم من أصدقائه وأحبابه! وكثيراً ما سمعت لَعْن مقالة والسخرية بها من إنسان، ثم سمعته يثني عليها ويطريها! حتى لقد أصبحت الصراحة وأصبح الحق عجيباً، ولقد لامني أكثر من واحد على أنّي أواجه المرء بما آخذه عليه وأقذف بشتمه في وجهه، وهم لا يرون بأساً بالغيبة ولا بالكذب!

* * *

إن هذه الأخلاق منتشرة فينا انتشاراً مخيفاً يجعلنا نعتقد أن الشرفاء قليلون في هذه الحياة، وأن الشرف منكَر مستهجَن لا ينال صاحبه إلا الحرمان؛ فإذا كان تاجراً قلَّ زبائنُه وساءت سمعته، وإذا كان صحافياً فَقَدَ معونة أهل المال وعطف القراء وأضحى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015