ولمّا كان مُنْشِىء البيان الكلاميّ أمام احتمالاتٍ وصُورٍ متعدّدة من كلّ ما سبق، وكان عليه أن يختار لبيانه واحداً منها.

ولمّا كان كلُّ احتمال يُمكن أن يَقْصِدَ بِه البليغ معنىً بلاغيّاً يطابق مقتضى الحال، وهذا المعنى لا يتحقّق بغيره من الاحتمالات.

ولمّا كانت مقتضيات أحوال المخاطبين مختلفات، فما يطابق مقتضى حال بعضهم قد لا يطابق مقتضى حال غيره.

لمّا كانت كلُّ هذه الأمور مُجْتَمِعةً في وقت واحد، كان على البليغ أن يختار بلاغيّاً لبيانه ما هو الأبلغ والأَجمل المطابق لمقتضى الحال، وكان مسؤولاً عن هذا الاختيار.

لكنَّ مراتبَ أذواقِ الْبُلَغاء متفاوتة متفاضلة، ومراتب الاختيارات الجماليّة متفاوتة متفاضلة أيضاً، لذلك كان لا بُدَّ أَنْ تتفاوت بلاغة الكلام، وتتفاضَل نِسَبُ الجمال فيه، بحسب تَفَاوُتِ الاختيارات، وتفاضل مستوياتها.

***

المقدمة الرابعة:

وللجملة في اللّسان العربيّ نظامٌ أصليٌّ ينبغي ملاحظته لدى ترتيب عناصرها، واحتمالاتٌ فرعيّة جائزة يتمُّ بها تقديم ما حقُّه الأصليُّ التأخير، لأغراضٍ بلاغيّةٍ أو جماليّة.

لذلك كان على البليغ الذّوّاق للأدب الرفيع أن يتقيّد بنظام ترتيب عناصر الجملة، ولا يلجأ إلى الاحتمالات الفرعيّة الجائزة إلاَّ لأسباب بلاغيّةٍ أو جمالية دَعَتْهُ إلى ذلك.

والباحثُ البلاغيُّ يُنَبِّهُ على طائفةٍ من الأغراض البلاغيّة أو الجمالية الداعية إلى مخالفة النظام الأصلي في ترتيب عناصر الجملة الكلاميّة، حتَّى يهتدي بها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015