المقابلة:

إذا أخذنا في تصفح الكتاب (المقامات) نجد الحريري يورد هذا اللون البديعي في مقدمة خطبة المقامات مثل قوله: "ونعوذ بك من شرة اللَّسَن، وفضول الهذَر، كما نعوذ بك من معرة اللَّكَن وفضوح الحصر"i، فقد استعاذ منهما لأن الاقتدار على الكلام قد يؤدي إلى المطاولة في الجدل، وتصوير الحق بصورة الباطل، أو العكس، وفي ذلك إثم على فاعله؛ لهذا استعاذ منهما.

ثم قابل الاستعاذة الأولى بضدها، وهي معرة اللكن وفضوح الحصر؛ لأن صاحبها لا يحسن التعبير؛ فيشين بذلك نفسه ويقصر عن المراد من أداء البيان، وأورد الحصر إذ إن من تعتريه سيتوالى عليه الوهن والخجل فيفتضح ويشتهر عيبه بين الناس.

فالمقابلة ظاهرة بين شرة اللسن وفضول الهدر، وبين معرة اللكن وفضوح الحصر.

ويحسن هنا أن نلاحظ صنيعه في كون الكلمتين الأوليين انتهت كل واحدة منهما بالتاء، في الوقت الذي انتهت التاليتين بالنون والأخيرتان بالراء، كما دمج مع المقابلة الجناس الناقص بين اللسن واللكن وبين الفضول والفضوح.

وبنفس هذه البراعة البديعية نجد الحريري يستمر ليقدم لنا في وقت واحد وخلال نسج مسجوع متوازن لونين أو أكثر، انظر إلى قوله في نفس المقدمة: "ونستكفي بك الافتتان بإطراء المادح وإغضاء المسامح، كما نستكفي بك الانتصاب لإزراء القادح وهتك الفاضح، ونستغفرك من سَوق الشهوات إلى سُوق الشبهات"، ففي هذه الجمل أتى بالمحسنات في أرقى العبارات:

منها السجع حيث نلاحظ انتهاء الكلمات التي قبل الفاصلة بالهمزة وهي: إطراء وإغضاء، وإزراء، ثم أتى بالفواصل الأخيرة بالحاء في توازن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015