يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر، يا محمد، نعمة الله عليك بحفظه ورعايته لك إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش، حين اجتمعوا في دار الندوة لِيُثْبِتُوكَ أي: يحبسوك في الوثاق والسجن، أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم، أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة.

وذلك أنهم لمَّا سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم للنبى صلّى الله عليه وسلّم، خافوا على أنفسهم، واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا من نجد، سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً، فقال أبو البحتري: أرى أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه فيها، حتى يموت، فقال الشيخ: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: أرى أن تحملوه على جمل، فتخرجوه من أرضكم، فلا يضركم ما صنع، فقال الشيخ:

بئس الرأي، يُفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فتضربوه ضربة واحدة، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإن طلبوا العَقَلَ عقلناه. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى، فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر، وأمره بالهجرة، فبيت علّيا رضى الله عنه على مضجعه، وخرج مع أبي بكر إلى الغار، ثم سافر مهاجراً إلى المدينة (?) .

قال تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ برد مكرهم عليهم، أو مجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم، بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين في أعينهم، حتى تجرءوا على قتالهم، فقُتِلوا وأُسِروا، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، وإسناد أمثال هذا مما يحسن، للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم. قاله البيضاوي.

الإشارة: وإذ يمكر بك أيها القلب الذين كفروا، وهم القواطع من العلائق والحظوظ والشهوات، ليحبسوك في سجن الأكوان، مسجوناً بمحيطاتك، محصوراً في هيكل ذاتك، أو يقتلوك بالغفلة والجهل وتوارد الخواطر والأوهام، أو يُخرجوك من حضرة ربك إلى شهود نفسك، أو من صحبة العارفين إلى مخالطة الغافلين، أو من حصن طاعته إلى محل الهلاك من موطن معصيته، أو من دائرة الإسلام إلى الزيغ والإلحاد، عائذاً بالله من المحن، والله خير الماكرين، فيرد كيد الماكرين، وينصر أولياءه المتوجهين والواصلين. وبالله التوفيق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015