وَلِكُلٍّ من الإنس والجن دَرَجاتٌ مراتب، مِمَّا عَمِلُوا من أجل أعمالهم بالخير والشر، فهم متفاوتون في النعيم والعذاب، وظاهر الآية: أن الجن يُثابون ويُعاقبون لأنهم مكلفون، وهو المشهور، واختلف: هل يدخلون الجنة أم لا؟ فروى الطبري وابنُ أبي حاتم عن أبي الدرداء موقوفًا: أنهم يكونون ترابًا كسائر الحيوانات، ورُوِي عن أبي حنيفة مثله، وذهب الجمهور- وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف، وغيرهم أنهم يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة. ثم اختلفوا، هل يدخلون مدخل الإنس، وهو الأكثر، أو يكونون في ربض الجنة، وهو عن مالك وطائفته، أو أنهم أصحاب الأعراف، أو التوقف عن الجواب؟ في هذا أربعة أقوال، والله تعالى أعلم بغيبه. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق عليه من ثواب أو عقاب.

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن العباد وعبادتهم، ذُو الرَّحْمَةِ يترحم عليهم بالتكليف، تكميلاً، ويمهلهم على المعاصي حلمًا، وليس له حاجة في طاعة ولا معصية، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة، وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق، كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ فأنشأكم قرنًا بعد قرن، لكنه أبقاكم رحمة بكم، إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث وما بعده، لَآتٍ لا محالة، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ تعجزون قدرة الله الطالب لكم بالبعث والحساب.

الإشارة: كما أن الحق تعالى لم يُعذب الكفار إلا بعد إرسال الرسل، كذلك لا يُعاقب أهل الإصرار إلا بعد بعث الأطباء وهم أهل التربية النبوية، فكل من لم يصحبهم وينقد إليهم مات مُصرًا على الكبائر- أي: كبائر القلوب- وهو لا يشعر، فيلقى الله بقلب سقيم، فيعاقبه الحق تعالى على عدم صحبتهم، ومعاتبته له: بُعدُهُ عن مشاهدته وعن مقام المقربين، فإذا رأى مقام المقربين وقربهم من الحضرة، قال: غرتنا الحياة الدنيا وزخارفها، وجاهها ورياستها، وشهد على نفسه أنه كان غافلاً.

فحِكمة وجود الأولياء في كل قرن لتقوم الحجة على أهل الغفلة، فإذا وقع البعد لقوم لم يكن الحقّ ظالمًا لهم، فالدرجات على حسب المقامات، والمقامات على حسب الأعمال، وأعمال القلوب هي التي تقرب إلى حضرة علام الغيوب، بها يقع القرب، وبالخلو عنها يقع البعد. وعليها دلت الأولياء بعد الأنبياء، لأن الأنبياء جاءوا بالشريعة الظاهرة والحقيقة الباطنة، فمن رأوه أهلاً لسر الحقيقة دلًّوه عليها، فكان من المقربين، ومن رأوه ضعيفًا عنها دلوه على الشريعة، فكان من أصحاب اليمين. وبالله التوفيق.

ثم أمره بتهديد قريش وتخويفهم، فقال:

[سورة الأنعام (6) : آية 135]

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015