يقول الحق جلّ جلاله: واذكر إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى بعد رفعه إلى السماء، أو يقوله له يوم القيامة، وهو الصحيح، بدليل قوله: قالَ اللَّهُ هذا الخ، فإن اليوم الذي يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ هو يوم القيامة، فيقول له حينئذٍ: أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يريد به توبيخ الكفار الذين عبدوه وتبكيتهم، وفيه تنبيه على أن من عبد مع الله غيره فكأنه لم يعبد الله قط، إذ لا عبرة بعبادة من أشرك معه غيره.

قالَ عيسى عليه السلام مبرءًا نفسه من ذلك وقد أرعد من الهيبة: سُبْحانَكَ أي: تنزيهًا لك من أن يكون لك شريك، ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي: ما ينبغي لي أنْ أقولَ ما لا يجوز لي أن أقوله، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، وكَلَ العلم إلى الله لتظهر براءته لأن الله علم أنه لم يقل ذلك، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي: تعلم ما أخفيته في نفسي، كما تعلم ما أعلنته، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك، سلك في اللفظ مسلك المشاكلة، فعبّر بالنفس عن الذات. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا يخفى عليك شيء من الأقوال والأفعال.

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وهو عبادة الله وحده، فقلت لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي: رقيبًا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك أو يعتقدوه. ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء، أي: توفيت أجلي من الأرض. والتوفي أخذ الشيء وافيًا، فلما رفعتني إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي: المراقب لأحوالهم وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: مطّلع عليه مراقب له.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وأنت مالك لهم، ولا اعتراض على المالك في ملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا العذاب، أي: لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فلا عجز ولا استقباح، فإنك القادر والقوي على الثواب والعقاب بلا سبب، ولا تُعاقب إلا عن حكمة وصواب، فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بإن.

قاله البيضاوي.

وقال ابن جزي: فيه سؤالان: الأول: كيف قال: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ وهم كفار، والكفار لا يغفر لهم؟

فالجواب: أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وإنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه لأن الخلق عباده، والمالك يفعل ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله وعزته، وفَرقٌ بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب وقع لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء فلا إشكال، لأن المعنى: إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذٍ أحياء، وكل حيى مُعرض للتوبة.

السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لقوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، والأليق إن قال: فإنك أنت الغفور الرحيم؟ فالجواب: أنه لما قصد التسليم له والتعظيم، كان قوله: (فإنك أنت العزيز الحكيم) أليق، فإن الحكمة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015