إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي: ملتبسًا بالحق لِتَحْكُمَ بما فيه من الحق بَيْنَ النَّاسِ بسبب ما أَراكَ أي: عَرَّفك اللَّهُ بالوحي، أو بالاجتهاد، ففيه دليل على إثبات القياس، وبه قال الجمهور. وفي اجتهاد الأنبياء خلاف. وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أي: عنهم للبرآء، أو لأجلِهم والذَّبَّ عنهم.

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما هممت به، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي، وبه قال ابن شعبان. وقال ابن عات: لعله أراد الندب. وقال مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة.

والوكالة من الأمانة، والمصطفى- عليه الصلاة والسلام- لم يقصد شيئًا من ذلك، ولا علم له بالواقعة، لولا أطلعَه تعالى، فلا نقص في اهتمامه، ولا درك (?) يلحقه. وبالجملة، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة.

ثم نهاه عن الذبّ عنهم، فقال: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ

وهم رهط ابن أبيرق السارق، قال السهيلي: هم بِشر وبشير ومُبشر وأُسَير، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً

أي: كثير الخيانة، أَثِيماً

أي:

مصرًا عليها، رُوِي أن طعمة هرب إلى مكة، وارتدَّ، ونَقَبَ حائطًا بها ليسرق أهله، فسقط الحائط عليه فقتله.

ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن عُلِمَت خيانتُه بالأحرى، أو كان مظنة الخيانة، كالكافر ونحوه. وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن في هذه الآية: إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز، بدليل الآية. هـ.

ثم فَضحَ سرهم، فقال: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ

أي: يستترون منهم، وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ

وهو أحق أن يستحيا منه ويُخاف وَهُوَ مَعَهُمْ

لا يخفى عليه شيء، فلا طريق للنجاة إلا تَركُ ما يستُقبح، ويؤاخذ عليه سرًا وجهرًا. إِذْ يُبَيِّتُونَ

أي: يدبرون ويُزَوِّرُون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ

من رمي البريء، والحلف الكاذب، وشهادة الزور، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً

لا يفوته شيء، ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

ودفعتم عنهم المعرة، فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ

أي: مَن يُدافُع عنهم عذابه يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

يحميهم من عقاب الله، حين تُفضَح السرائر، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر.

الإشارة: في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا: شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله-

طور بواسطة نورين ميديا © 2015