بالصدق، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- فإنهم شهداء على الناس.

قال عطاء: سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصَّارين وصباغين، فأراد مُعلّم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان، وقد علمتك الحرفة فاصبغها، فطبخ جُبّاً واحداً، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال لها: كوني على ما أريد، فقدم الحواريُ، والثياب كلها في الجب، فلما رآها قال: قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوباً أصفر، وأحمر، وأخضر، إلى غير ذلك، فعجب الحواري، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى، ودعا الناس إليه، وآمنوا به، ونصروه، فهم الحواريون.

ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمُّوا بقتله، وتواطئوا عليه، وَمَكَرُوا أي: دبروا الحيل في قتله، وَمَكَرَ اللَّهُ بهم، أي: استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم، ورُفع عيسى عليه السلام، فالمكر في الأصل: هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة. ولا تُسند إلى الله إلا على حسب المقابلة والازدواج، كقوله:

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

، وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. أي: أشدهم مكراً، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، أو أفضل المجازين بالعقوبة لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه.

تنبيه: قيل للجنيد رضى الله عنه: كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه، وقد عابه على غيره؟ قال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان للطبرانية:

فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ ... ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ

أُحِبّك، لا بِبَعْضِي بل بكلّى ... وإن لم يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا

وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي ... وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ (?)

فقال له السائل: أسألُك عن القرآن، وتجيبني بشعر الطبرانية؟ قال: ويحك، قد أجبتك إن كنت تعقل. إنَّ تخليته إياهم مع المكرية، مكرٌ منه بهم. هـ.

قلت: وجه الشاهد في قوله: (وتفعله فيحسن منك ذاك) ، ومضمن جوابه: أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان، لا عيب فيه ولا نقصان، كما قال صاحب العينية:

وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ ... أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ

يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ ... فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015