والمجاهدة: خمود الطبع وقهر صولته، لا نزعه بكليته، فيقع الرجوع إلى الله من الطبع الدنيء، ولا يقدح في خصوصيته إن رجع إلى الله في الحين، ولذلك تلونت أحوال الأولياء بعد مجاهدتهم ورياضتهم. والله تعالى أعلم. فجعلناه سميعاً بصيراً، ونفخنا فيه روحاً سماوية وقدسية، تحن دائماً إلى أصلها، فمنها مَن غلبت عليه النطفةُ الطينية، فأخلدت بها إلى الأرض، فبقيت مسجونة في هيكلها، محجوبة عن ربها، ومنها: مَن غلبت روحانيتها على الطينية، فعرجت بها إلى الحضرة القدسية، حتى رجعت إلى أصلها وإلى هذا أشار بقوله: {إنا هديناه السبيل} أي: بيَّنَّا له الطريق الموصل إلى الحضرة، فصار إمّا شاكراً بسلوكها أو كافراً بالإعراض عنها، وعدم الدخول تحت تربية العارف بها.

يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا أعتدْنا} ؛ أعددنا {للكافرين سلاسلاً} يُقادون بها إلى النار {وأغلالاً} يُقيَّدون بها {وسعيراً} يُحرقون بها. و " سلاسل " لا ينصرف؛ لصيغة منتهى الجموع، ومَن صرفه فليناسب أغلالاً، إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب. وتقديم وعيد الكفرة مع تأخرهم في الجمع على طريق اللف والنشر المعكوس، كقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ... } [آل عمران: 106] الآية ليتخلّص إلى الكلام على الفريق الأول بطريق الإطناب، فقال:

{إِنَّ الأبرارَ} جمع بر وبار، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد، وهو مَن يبر خالقه، أي: يُطيعه، وقيل: الأبرار هم الصادقون في الإيمان، أو: الذين لا يؤذون الذر، ولا يعمدون الشر. {يشربون من كأس} وهو الزجاجة إذا كان فيها خمر، ويُطلق على نفس الخمر، فـ " مِن " على الأول ابتدائية، وعلى الثاني تبعيضية، {كان مِزاجُها} أي: ما تمزج به {كافوراً} أي: ماءٌ كافورٌ، وهو عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور ورائحتِه وبردِه. وفي القاموس: الكافور: نبت طيب، نَوره كنَور الأُقحوان، وطِيب معروف، يكون

طور بواسطة نورين ميديا © 2015