قلت: هذه المقالة صدرت من بعض اليهود والمشركين، قالوا ذلك تعنتاً وعناداً، لا طلباً لليقين، فلذلك نفى الله عنهم العلم رأساً، والمقصود في هذه الآيات كلها توبيخ اليهود.

يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ لا علم عندهم: هلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ حتى نسمع منه أنك رسوله، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ظاهرة، نراها جهرة تدل على رسالتك، كما كانت لموسى- عليه السلام-.

وهذه المقالة التي صدرت من اليهود، تَعنتاً وعناداً، قد صدرت ممن قبلهم من أسلافهم، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، ومن النصارى فقالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ، ومن المشركين فقالوا:

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً الآية. فقد تماثلت قلوبهم في الكفر والعناد، وتشابهت في العتو والفساد، قد أوضحنا لك الآيات البينات، تحقق رسالتك وتقرر اصطفائيتك، لمن طلب مزيد الإيقان، وكشف البيان على نعت العيان، فأعظمُها القرآن، ثم ما أوضحته من شرائع الأحكام، وما بينته من الحلال والحرام، ثم ما أخبرت به من الغيوب، وما كشفته عن القلوب من الكروب، ثم نطق الجمادات والأحجار، كحنين الجذع وانقياد الأشجار، وتسبيح الحصى، وتسليم الحجر، وقد نبع الماء من بين أصابعه وانهمر، إلى ما لا يعد ولا يحصى.

فقد أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، أي: متلبساً بالحق ومبيناً له، بَشِيراً لمن صدقك واتبعك بالنعيم المقيم، ونَذِيراً لمن خالفك بعذاب الجحيم. فلا تسأل عن حالهم إذا أفضوا إليه، فإنه أعظم من أن يذكر، وأفظع من أن يسمع، إذ لا يمكن تفسير حالهم، ولا يستطيع أحد سماع أهوالهم، فالله يعصمنا من موارد الردى، ويوفقنا لاتباع الحق والهدى، أو لا يسألك ربك عنهم فهو أعلم بحالهم، وبالله التوفيق.

الإشارة: طلب الكرامات وظهور الآيات من طبع أهل الجهل والعناد، وليس هو من شيم أهل الهداية والاسترشاد. فالطريق واضح لمن طلب السبيل، والحق لائح لمن أبصر الدليل، فمن كَحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص، لم يقع بصره إلا على الحق، ولا يعرف إلا إياه، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله، بل لا وجود لها مع الله، ومن فتح الله سمع قلبه لم يسمع إلا من الحق، ولا يسمع إلا به، كما قال القائل: أنا بالله أنطق ومن الله أسمع.

وقال الجنيد رضي الله عنه: (لي أربعون سنة أُناجي الحق، والناس يَروْن أني أناجى الخلق) . فالخلق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق، مُثْبَتُونَ عند أهل الجهل والتفريق. يقولون: لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، مع أنه يكلمهم في كل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015