حكي عنهم في مطلع السورة، على تباعد الزمان والمكان، وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن! «قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ. أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» .. وقد حذف من استنكار موسى الأول ما دل عليه الثاني. فكأنه قال لهم: أتقولون للحق لما جاءكم: هذا سحر؟ أسحر هذا؟ وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر، وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر. فالسحر لا يستهدف هداية الناس، ولا يتضمن عقيدة، وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق ولا يتضمن منهاجا تنظيميا للحياة. فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس.

وما كان الساحرون ليؤدوا عملا يستهدف مثل هذه الأغراض، ويحقق مثل هذا الاتجاه وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف. وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات الله: «قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ؟ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» ..

وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي. وهو الخوف على السلطان في الأرض، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.

إنها العلة القديمة الجديدة، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات، وانتحال شتى المعاذير، ورمي الدعاة بأشنع التهم، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة .. إنها هي «الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير، بكل ما فيها من زيف، وبكل ما فيها من فساد، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات. لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة، واستنارة العقول بالنور الجديد، خطر على القيم الموروثة، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند. إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون الله .. ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعا - إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده للعالمين وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها، وتزاولها في حياة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015