في الجاهليات ينحسر مجال الألوهية كثيرا

إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين، فقد كانوا يعترفون بأن اللّه - سبحانه - هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء .. ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته. فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية اللّه على هذا المستوي أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم .. والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له ولا يحكمون في أمرهم كله غيره .. وهذا معنى قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» .. فالعبادة هي العبودية، وهي الدينونة، وهي الاتباع والطاعة، مع إفراد اللّه سبحانه بهذه الخصائص كلها، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية.

وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية. ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان وأنه متى اعترف الناس بأن اللّه إلههم فقد بلغوا الغاية دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية .. أي الدينونة للّه وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه ..

كذلك ينحسر معنى «العبادة» في الجاهلية، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر. ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر للّه وحده، فقد عبدوا اللّه وحده .. بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد. و «عبد» تفيد ابتداء «دان وخضع».وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها.

والجاهلية ليست فترة من الزمان، ولا مرحلة من المراحل. إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو، ومعنى العبادة. هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين اللّه! كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين، ويؤدون الشعائر للّه، بينما أربابهم غير اللّه، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما يشرعه لهم، وبذلك يعبدونه، عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِنْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015