وَمِنْ ذَلِكَ اقْتِنَاعُ الْعَالِمِ بِطَرَفٍ مِنْ الْعِلْمِ، فَأَيْنَ مُزَاحَمَةُ الْكَامِلِينَ وَالنَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ أَحْوَالِهِمْ؟ وَقَدْ يُؤْثِرُ الْأَسْهَلَ كَإِيثَارِ عِلْمِ الْحَدِيثِ عَلَى الْفِقْهِ وَمُعَانَاةُ الدَّرَجِ تَسْهُلُ عِنْدَ الْعُلُوِّ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْإِكْثَارُ مِنْ الْجِمَاعِ نَاسِيًا مَغَبَّتَهُ وَأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيُؤْذِي فَالطَّبْعُ يَرَى اللَّذَّةَ الْحَاضِرَةَ وَالْعَقْلُ يَتَأَمَّلُ، وَشَرْحُ هَذَا يَطُولُ لَكِنْ قَدْ نَبَّهْت عَلَى أُصُولِهِ، لَقَدْ جِئْت يَوْمًا مِنْ حَرٍّ شَدِيدٍ فَتَعَجَّلْت رَاحَةَ الْبُرُودَةِ فَنَزَعْت ثَوْبِي فَأَصَابَنِي زُكَامٌ أَشْرَفْت مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَوْ صَبَرْت سَاعَةً رَبِحْت مَا لَقِيت، فَقِسْ كُلَّ لَذَّةٍ عَاجِلَةٍ وَدَعْ الْعَقْلَ يَتَلَمَّحُ عَوَاقِبَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ أَيْضًا تَأَمَّلْت اللَّذَّاتِ فَرَأَيْتهَا بَيْنَ حِسِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ فَأَمَّا الْحِسِّيَّاتُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ، إنَّمَا تُرَادُ لِغَيْرِهَا كَالنِّكَاحِ لِلْوَلَدِ وَلِزَوَالِ الْفُضُولِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالطَّعَامِ لِلتَّغَذِّي وَالتَّدَاوِي، وَالْمَالِ لِلْإِعْدَادِ وَلِلْحَوَائِجِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ اللَّذَّاتُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْبِرْطِيلِ حَتَّى يُحَصِّلَهَا وَإِنْ طُلِبَ مِنْهَا شَيْءٌ لِنَفْسِ الِالْتِذَاذِ فَإِنَّ لِلطَّبْعِ حَظًّا، إلَّا أَنَّ كُلَّ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ تُلَازِمُهَا آفَاتٌ لَا تَكَادُ تَفِي بِاللَّذَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَذَّةُ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُهُ عَاجِلًا ذَهَابُ الْقُوَّةِ وَتَكَلُّفُ الْغُسْلِ وَمُدَارَاةُ الْمَرْأَةِ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَوْلَادِ، فَاللَّذَّةُ خُطِفَتْ خَطْفَ بَرْقٍ وَمَا لَازَمَهَا صَوَاعِقُ وَمَا يُلَازِمُ الْمَطْعَمَ مَعْلُومٌ مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعْلُومٌ مَا يُلَازِمُ حُبَّ الْمَالِ مِنْ مُعَانَاةِ الْكَسْبِ وَالْخَوْضِ فِي الشُّبُهَاتِ وَصَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ الْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ شُغْلًا بِالِاكْتِسَابِ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا الضَّرُورِيَّ فَتَقَعَ مُعَانَاةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتَحْصُلَ قَنَاعَةٌ بِمِقْدَارِ الْكِفَايَةِ وَالْعِفَّةِ عَنْ فُضُولِ الشَّهَوَاتِ.

وَإِنَّمَا اللَّذَّةُ الْكَامِلَةُ الْأُمُورُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْإِدْرَاكُ لِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَالِارْتِفَاعُ بِالْكَمَالِ عَلَى النَّاقِصِينَ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ الْأَعْدَاءِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ لَذَّةُ الْعَفْوِ أَطْيَبَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا فِي حَقِّ ذَلِيلٍ قَدْ قُهِرَ، وَالصَّبْرُ عَلَى نَيْلِ كُلِّ فَضِيلَةٍ وَعَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ، وَالْمُلَاحَظَةُ لِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ فَلَا تَقْصُرُ عَنْ بُلُوغِ غَايَةٍ تُرَادُ بِهِ فَضِيلَةٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا تَزُولُ، وَأَنَّ مَرَاتِبَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015